الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 62 ] رسالة

إلى الشيخ قطب الدين ناظر الجيش في الكلام عن ابن عربي وطائفته [ ص: 64 ]

الحمد لله

بسم الله الرحمن الرحيم

نقلت ما صورته:

من المملوك أحمد بن تيمية إلى الشيخ السيد الإمام الكبير، جلال الأعيان الكبراء، وجمال الصدور الرؤساء، قطب الدين، أصلح الله له وبه أمر الدنيا والآخرة، وأتم عليه نعمه الباطنة والظاهرة، وألف به بين القلوب المتنافرة، وأطفأ به البدع وأحيا به السنن الزاهرة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم محمد عبده ورسوله، وعلى آله وسلم تسليما.

أما بعد، فقد وصل مشرف الشيخ أيده الله تعالى، وفهمت مضمونه، [ ص: 66 ] وتقبلته بالقبول والطاعة، والسعي في مصلحة الجماعة; فإن هذا من أوجب الواجبات على الناس عموما وعلى الخادم خصوصا، وهو من أقرب القربات إلى الله تعالى، وأفضل الحسنات; لما في ذلك من رضا الرحمن، وسرور الإخوان، وقمع الشيطان، وصلاح السر والإعلان، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران.

فإنه غير خاف على علم الشيخ أن الحسد والبغضاء هو داء الأمم قبلنا، وهو لهذه الأمة من أعظم الأدواء، وكذلك اتباع الظنون والأهواء، وتفرق القلوب وتشتت الآراء. وهذه الأمور السيئات، ينشأ غالبها من شبهات وشهوات.

وقد روي في الحديث: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند ورود الشهوات، ويحب الشجاعة ولو على قتل [ ص: 67 ] الحيات، ويحب السماحة ولو بكف من تمرات».

وهذه الأربعة هي الفضائل التي ترتفع بها الدرجات، ويتميز بها ذوو المراتب العليات، وقد اتفق على فضلها جميع أنواع البريات، والشيطان فهمته مصروفة إلى أصحابها، وسهامه مفوقة نحو أربابها; لأنهم إذا سلموا منه قطعوا عنه مادة الفساد، وأصلحوا بأمر الله العباد والبلاد.

وقد قال الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف: 201].

وفي الحديث: «مثل المؤمن مثل الفرس في آخيته، يجول ثم يرجع إلى آخيته، كذلك المؤمن يجول ثم يرجع إلى الإيمان». [ ص: 68 ]

و «لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه».

وهذا هو الحكمة في ابتلاء الكبراء بالذنوب; لينقلوا منها إلى درجة المحبوب المفروح به; فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، والله أشد فرحا بتوبة عبده من فاقد الضالة التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها بعد الفقدان.

وهكذا ما قد يقع بين الناس عموما، وأهل الطريق خصوصا، من المحاقات والمنافرات; فإن ذلك قد ينتفعون به، كما يروون عن الجنيد قال: «الصوفية بخير ما تنافروا».

وكثيرا ما يقع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لنوع هوى في النفوس، فلا تخلص فيه النية. وكثيرا ما يقع ركوب المنكرات، ومدح ذي الضلالات، لعدم العلم بحقيقة أمرهم.

وهذه الأمور -وهي: الجهل، والظلم- مبدأ الفتن والشرور، إذا لم يتداركها الله تعالى بالعلم والهداية، قال الله تعالى: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [الأحزاب: 72].

[ ص: 69 ] وبهذين السببين يدخل أكثر الناس النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار».

فهذا الحديث في القضاة، وكل من حكم بين اثنين أو طائفتين، في دين أو دنيا، فهو قاض. وغير القاضي في معناه. بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي في الجنة من علم وعدل، دون من جهل أو ظلم.

ولما حضر المشايخ السادة: الشيخ قاسم، والشيخ هارون، والشيخ محمد. [ ص: 70 ]

وكان بحضور الشيخ السيد عماد الدين الحزامي، والشيخ القدوة محمد بن قوام، والشيخ عبد الله الجزري، والشيخ تاج الدين الفارقي، وغيرهم من المشايخ الذين تحمد مقاصدهم، وتصفو عقائدهم، وتتطهر سرائرهم.

وكان ذلك رحمة رحم بها الحاضر والسامع، وانتفع به القريب والشاسع، وقام عذر المعذور، وعفا الله عن الذنب المغفور، وأزال الله تعالى ما كان في النفوس من الأهواء والجهل الذي يجعل المؤمنين أحزابا وألوانا، [ ص: 71 ] وألف الله بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، ومن أسر خلاف ما أعلن فالله يجعل السريرة إعلانا.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا»، وشبك بين أصابعه.

وقال: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين; فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين». [ ص: 72 ]

وكان الأمر أخف مما شنع به وقيل، ولم يكن صدر قبل ذلك ما كثرت به الأقاويل.

وإنما سالكو طريق الله، العارفون بحقيقة السير إلى الله، لا بد عند سلوكهم الطريق، وملاحظتهم غاية التحقيق، أن يتأملوا دعاة الطريق وهداته، وحفاظ سبيل الله وحماته، ويتأملوا مصنفاتهم ومسطوراتهم ومنثوراتهم.

وكان سيدنا العارف المحقق عماد الدين، وغيره من السالكين، كالشيخ العارف المرحوم إبراهيم الرقي، والشيخ الإمام قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد، وغيرهما ممن في عصرنا وقبل عصرنا، مشايخ [ ص: 73 ] كثيرون تجري بينهم المفاوضة في كلام ابن العربي وذويه، فيرون فيه ما يقبل وهو من أحسن الكلام، وفيه ما يعزب فهمه عن أكبر المميزين فضلا عن العوام.

ثم إنهم تأملوا حقيقة ما يقصده في «فصوص الحكم» ونحوها مما هو خلاصة معارفه وحقائقه، وما يقصده من جرى على طرائقه، كابن سبعين المغربي في كتاب «البد» و «الإحاطة»، والعفيف التلمساني في شروحه وقصائده، ومثل أواخر قصيدة ابن الفارض المسماة «نظم السلوك»، ومثل كلام الصدر القونوي في كتاب «مفتتح غيب الجمع والوجود» ونحوه، ومثل كلام عبد الله الشيرازي البلياني، ونحو هذه الطائفة الحادثة في دولة التتار فوجدوا حقيقة أمرهم هو تعطيل الصانع، وجحد الخالق، وهو باطن مذهب الفرعونية والقرامطة الباطنية.

وهم معترفون بأن قولهم هو حقيقة قول فرعون; إذ ليس عندهم للخلق رب خالق متميز عن المخلوق، بل المخلوق عين الخالق، والمصنوع عين [ ص: 74 ] الصانع، والناكح عين المنكوح، والشاتم عين المشتوم; فما نكح سوى نفسه، وما شتم سوى نفسه.

والذين عبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ما عبدوا إلا الله، ولا يتصور عندهم أن يعبدوا إلا الله، وهو العابد والمعبود، والحامد والمحمود، وفرعون كان صادقا في قوله: «أنا ربكم الأعلى»، والله -سبحانه- عين المحدثات، حتى الخبائث والنجاسات.

وليس عندهم على العارف منهم واجبات ولا محرمات، ولا أهل النار يذوقون فيها أليم العقوبات، ويفضلون أنفسهم من كثير من الوجوه على الأنبياء والرسل، حتى على خاتم الرسالات.

ويزعمون أن الله يعبدهم كما يعبدونه، ويفتقر إليهم كما يفتقرون إليه، وهو غذاؤهم بالوجود، وهم غذاؤه بالأحكام، وأنه لولاهم لما كان الله تعالى.

إلى أمثال هذه العقائد التي تكاد السماوات يتفطرن منها، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا.

ولا يرتضون لأنفسهم أن يقولوا بأنه حال في جميع المخلوقات، كما تقوله مثبتة الجهمية الذين كفرهم سلف الأمة وأئمة الإسلام; لأن هذا [ ص: 75 ] عندهم تثنية وقول باثنين أحدهما حال والآخر محل، كما قال شاعرهم يدعو على نفسه بالعبادات:


متى حلت عن قولي: أنا هي، أو أقل -وحاشى لمثلي-: إنها في حلت

ولا يرتضون أيضا بالاتحاد في معين، أو الحلول فيه، كما تقوله النصارى في المسيح، وغالية الرافضة في أمير المؤمنين علي وبعض أهل بيته، وكما يقوله قوم من الضلال في الحاكم بمصر، أو الحلاج، أو يونس القنيي، وكما يقوله قوم في جميع المشايخ والأنبياء.

لا يرتضون قول من يقول بالاتحاد، أو الحلول في معين، بل النصارى عندهم إنما كفروا للتخصيص، وإلا فلو أطلقوا وقالوا بالاتحاد في كل شيء لكانوا عارفين محققين.

وكذلك عباد العجل والأصنام ما عبدوا إلا الله، لكن اقتصروا على بعض المجالي، والعارف عندهم من يعبد جميع الأشياء ويسجد لها.

وليس للرب عندهم حقيقة سوى حقيقة العبد، قال شاعرهم: [ ص: 76 ]


ما بال عيسك لا يقر قرارها     وإلام ظلك لا يني متنقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن     إلا إليك إذا بلغت المنزلا



وقال أيضا:


وتلتذ إن مرت على جسدي يدي     لأني في التحقيق لست سواكم



وقال أيضا:


وما أنت غير الكون بل أنت عينه     ويفهم هذا السر من هو ذائق



ووصف هؤلاء يطول ذكره هنا، وكان الشيخ عماد الدين -نفع الله ببركاته- قد كتب في بيان حال هؤلاء ما نفع الله به، وكتب الخادم في ذلك [ ص: 77 ] لمن استدعى ذلك منه ما يسره الله تعالى، ولولا مسيس الحاجة إلى ذلك، والضرورة التي هي أهم عند من سلك الطريق وابتلي بهؤلاء من قتال التتار، لم يكن بالمسلم حاجة إلى كشف الأسرار وهتك الأستار، ولكن قد ابتلي المسلمون بالتتار من جميع الأصناف.

وقد قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران: 187].

وكان الخادم لما ذهب إلى مصر -مع ضيق الوقت- تحدث معه في مذهب هؤلاء جماعات من أعيان العلماء والمشايخ والكتاب، وكذلك قدم علينا من الشرق مشايخ يقتدي بهم ألوف مؤلفة، سألوا عن حال هؤلاء.

فهذا ونحوه ما كان عندنا في هذا، وأما قصد أحد بعينه، لا سيما من [ ص: 78 ] يكرم على إخوانه، فلا نقصد له إلا ما يقصده المؤمن لنفسه، إذ هذا حقيقة الإيمان.

والشيخ العارف الجليل الشيخ هارون قد علم من جمل هذه الأمور وتفاصيلها، ومعرفتنا بما للشيطان في النفوس من الأغراض، ما يخبر به الشيخ أيده الله تعالى.

فإن الله سبحانه قد أنعم عليكم وبكم، وأجرى على أيديكم من منافع أهل البلد ما تجب معاونتكم عليه، وجعل فيكم من الحلم، والكرم، والسيادة، وصحة الاعتقاد، وتعظيم الدين وأهله، والقيام بمصالح الإخوان وحقوق ذوي الحقوق، وقضاء حوائج ذوي الحاجات ما نرجو من الله تعالى أن يتم نعمته عليكم، ويجعل ما أنعم به نعمة تامة في الدين والدنيا.

وقد تحدثت مع الشيخ هارون غير مرة فيما يتعلق بهذا، والخادم حريص على خدمتكم وإعانتكم، وجلب المنفعة في الدين والدنيا لأهل البلد بسببكم.

ولا ريب أن الله إذا أقام بكم منار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالصلوات والزكوات، والنهي عن الربا في المعاملات، والعدل في القضايا، ودفع الظلم عن الرعايا - كان هذا من أكبر نعم الله عليكم وعلى المسلمين، فأنتم الرأس وغيركم جسد من الأجساد، وأنتم إنسان العين وغيركم السواد. [ ص: 79 ]

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».

وقال صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

وإذا ألف الله بكم بين ذوي الأرحام والأصهار، كان هذا من نعم الله الكبار.

والخادم خادم لخدمتكم، مسارع إلى قضاء ما يطلب من المصالح من جهتكم، ذاب عن حماكم، وهو يرى ذلك من الواجبات في دين الإسلام، أعني به الإسلام الحقيقي الذي بعث الله به رسوله، فإني دائما أجدد إسلامي، وأعوذ بالله من الخروج عنه في نقضي وإبرامي.

واتفق أنه لما أراد الخادم أن يكتب جوابكم، وهو والشيخ هارون في هذه الهمة، قدم علاء الدين علي بن سبع من الديار المصرية، ومعه مراسيم سلطانية ببعض الجهات المتعلقة بالبلد من نظر الحسبة وغيرها، واجتمع بالخادم، فقلت له: هذا أمر لا يتكلم فيه إلا بمرسوم الشيخ قطب الدين [ ص: 80 ] وبأمره; فإني أحب أن يكون أمر البلد منتظما فيما يراه من المصلحة.

وحضر الشيخ هارون وعلاء الدين، فرأيت علاء الدين كثير الخدمة والخضوع للشيخ، وقال لي وللشيخ هارون ما أشهدنا به عليه أنه مملوك الشيخ وعبده وتحت أمره، ومنفذ ما يرسم به، مطيع لما يتقدم به، وأشياء كثيرة من هذا النمط، والكلام فيه موقوف على ما يرسم به الشيخ ويتقدم به; فإنه قد ظهر الخلل في أحواله، لفقره وكثرة عياله، وقد اعتنى به من المصريين مثل الوزير والصاحب شمس الدين وغيرهما من أمرائهم.

والله يخير لكم وله ولأهل البلد ولسائر المسلمين ما هو الخيرة من الدنيا والآخرة، ويصلح الأحوال الباطنة والظاهرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

آخر ما كتب قدس الله روحه، ونقلته من خط الإمام شمس الدين محمد ابن المحب، وقال: نقلته من خط عمي أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن المحب. كتبه محمد بن الحبال الحراني سبط سبط الشيخ محمد بن قوام عفا الله عنهم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية