الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي

الدكتور / عبد العظيم محمود الديب

تقديم

بقلم: عمر عبيد حسـنة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، وبدأ الوحي بالكلمة: ( اقرأ ) [العلق:1]، وجعل الجهاد الفكري، أو المجاهدة بالقرآن، وبناء الشوكة الفكرية هـي أعلى أنواع الجهاد وأسماها؛ لأن الساحة الفكرية هـي ميدان المعركة الحقيقي بين الإسلام وخصومه قال تعالى: ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) [الفرقان:52].

واعتبر الحوار والمناظرة والمجادلة بالتي هـي أحسن الطريق الأمثل لنشر الدعوة ونصرها، وتحقيق الاقتناع الذي يتشكل في الأعماق، فيولد الإيمان، الذي لا يمكن أن يفرض بالإكراه.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كانت سيرته وقيادته أنموذجا لدولة الفكرة؛ دولة الشورى السياسية، والعدالة الاجتماعية، والحرية الإنسانية، وكان كل مطلبه إيصال الفكرة وكلمة الحق: ( خلوا بيني وبين الناس ) . وكان كل جهد الكفار الحيلولة دون وصول كلمة الحق إلى آذانهم والشغب عليها؛ لأنها ستهزمهم: ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [فصلت:16]. [ ص: 7 ] وبعد: فهذا كتاب الأمة السابع والعشرون: (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) للدكتور عبد العظيم الديب ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية، والشئون الدينية، بدولة قطر؛ مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، وترميم عالم الأفكار، وتنقية الموارد الثقافية، وامتلاك القدرة على الاجتهاد، وإيجاد الأوعية الفكرية لحركة الأمة، وتنزيل الإسلام على واقع الناس، وتقويم سلوكهم به، بعد أن افتقدت تلك الشخصية الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وانحسر شهودها الحضاري، وعجزت عن التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وانتهت إلى التقليد الجماعي، والتخاذل الفكري؛ سواء أكان هـذا التقليد في الهروب إلى ملاجئ التراث، الذي لا يخرج في النهاية عن أن يكون اجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب، على أحسن الأحوال، جاء ثمرة لمشكلات العصر الذي نشأت فيه؛ كنوع من التعويض عن مركب النقص، وحماية الذات، وأخذ جرعات من الاعتزاز والفخر بالتاريخ وإنجاز الأجداد، أم كان باللجوء إلى استيراد البديل الأسهل من الخارج الإسلامي، ومحاولة إيجاد الحلول في أوعية الآخرين الفكرية.

ولا شك أن الاستشراق كان ولا يزال يشكل الجذور الحقيقية التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم لفرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي، وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هـو المنجم والمصنع الفكري، الذي يمد المنصرين والمستعمرين وأدوات الغزو الفكري [ ص: 8 ] بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي؛ لتحطيم عقيدته، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصية الحضارة التاريخية.

لقد تطورت الوسائل، وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نشير إلى أن مراكز البحوث والدراسات؛ سواء أكانت مستقلة أم أقساما للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية، وما يوضع تحت تصرفها من الإمكانات المادية، أو المبتكرات العلمية، والاختصاصات الدراسية تمثل الصور الأحدث في تطور الاستشراق؛ حيث تمكن أصحاب القرار من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يوميا.

ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي عشرة آلاف مركز للبحوث والدراسات، القسم الكبير منها متخصص بشئون العالم الإسلامي، وظيفة هـذه المراكز: تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ومن ثم دراسته وتحليله، مقارنا مع أصوله التراثية التاريخية، ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار؛ لتبنى على أساسه الخطط، وتوضع الاستراتيجيات الثقافية والسياسية، وتحدد وسائل التنفيذ.

لقد أصبح كل شيء خاضعا للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والثقافية، وجميع الدراسات الإنسانية اليوم توازي المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة واهتماما، حيث لم يعد مجال للكسالى والنيام، والمتخاذلين والأغبياء في عالم المجدين الأذكياء.

لقد اكتفينا نحن -مسلمي اليوم- بمواقف الرفض والإدانة للاستشراق والتنصير، اكتفينا بالانتصار، والانحياز العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيرا وانفعلنا أكثر، ولم تعل إلا أصواتنا، ولا نزال نحذر من الغارة على العالم [ ص: 9 ] الإسلامي، القادمة من الشرق والغرب، ومن المخططات الصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة، لقد أصبح ذلك يشكل عندنا مناخا ثقافيا، وإرثا فكريا، وطريقا أمثل للوصول إلى المناصب والزعامات، دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث ذي قيمة في الموضوع، أو إيجاد خطة أو وسيلة مدروسة في المواجهة، أو محاولة جادة لتقديم البديل الصحيح للسيل الفكري والثقافي والإعلامي والأكاديمي القادم من هـناك، إلا من رحم الله من جهود فردية تمثل إضاءات، كما أنها تمثل في الوقت نفسه إدانات لهذا الفراغ، والادعاء، والعجز، والتخاذل الفكري.

إننا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح، ومن ثم القدرة على غربلته وفحصه، والإفادة من العقلية المنهجية التي أنتجته، والقدرة على إنتاج فكري معاصر يوازيه، من خلال الاهتداء بالقيم المحفوظة في الكتاب والسنة، حيث لا يزال بعضنا يصر حتى اليوم على نقل القدسية من الكتاب والسنة المعصومين إلى أقوال واجتهادات البشر الفقهية والفكرية، وفعلهم التاريخي، وبذلك يلغي عقله تماما، ويسقط في فخاخ التقليد الجماعي، ويقف أمام هـذا التراث للتبرك والمفاخرة، دون أن تكون لديه القدرة على العودة إلى الينابيع التي استمد منها، فينتج تراثا معاصرا، قادرا على قراءة مشكلات العصر، وتقديم الحلول الشرعية لحركة الحياة، ويفكر بوسائل تنزيل الإسلام على الواقع وتقويم الواقع به.

والمظهر الآخر للعجز نفسه يتمثل في فريق آخر، يحاول القفز من فوق الفهوم السابقة، والتراث الفقهي والفكري، ضاربا عرض الحائط هـكذا بحكم عام، وعامي في الوقت نفسه بكل الإنتاج الفكري والحضاري الإسلامي، بدعوى التناول المباشر من الكتاب والسنة، دون امتلاك القدرة [ ص: 10 ] على ذلك. فكيف يمكننا -وهذا موقعنا وواقعنا- أن نمتلك الشوكة الفكرية، التي تمكننا من النزول إلى معركة الصراع الحضاري الفكري، ونأمل أن نحقق فيها انتصارات للإسلام والمسلمين؟

وقد نلاحظ هـنا أن الكثير منا لا يزال مولعا بالمعارك القديمة، التي انتهت بأصحابها وأهدافها وأسلحتها وزمانها، ومع ذلك فهو يصر على دخول المعركة المنتهية، ويستنزف طاقاته، وطاقات من يستمعون إليه فيها، ويحاول أن يحقق انتصارات في الفراغ، بعد أن تطورت المعركة، وتطورت أسلحتها، وتغير أشخاصها، وتبدلت ساحاتها، وبلغت أبعادا وأمداء تفعل فينا فعلها، لكننا سوف لا ننتبه إليها إلا بعد فوات الأوان، ولا ندخل ساحتها إلا بعد أن تكون قد أدت أغراضها، وحققت أهدافها.

لقد دخلنا المعارك القديمة، ولا نزال ندخلها، وننشغل بها، على حساب الحاضر وما يدور فيه، والمستقبل وما يخطط له، ويمكننا هـنا أن نقول: بأننا سوقنا لأفكار المستشرقين عن حسن نية، وعملقنا أشخاصهم، دون حسابات دقيقة للآثار السلبية على أكثر من صعيد، ولما يترتب على ذلك، وكأننا لكثرة ما نبدي ونعيد في هـذه الموضوعات، ونكتب ونخطب نوحي أننا ما زلنا دون مرحلة النصر، أو على أحسن الأحوال لا نزال نعاني من آثار الهزيمة الفكرية التي تعيش في أعماقنا، إلى جانب ما يمكن أن تورثه تلك المعارك من قدرة الخصم على التحكم بمسار تفكيرنا، ونشاطنا العقلي؛ لأنه يكفي أن يلقي إلينا ببعض التشكيكات؛ ليستثيرنا ويحول جهودنا وطاقاتنا إلى تلك المواقع الدفاعية، فينفرد هـو بالتخطيط لتحقيق أهدافه، وكلما حاولنا أن ننتبه، ينتقل بنا من مشكلة إلى أخرى. فنبقى دائما في مجال رد الفعل، ونعجز دائما عن الفعل، ذلك أن رد الفعل يملكنا، بينما نحن الذين نملك الفعل. [ ص: 11 ] وسوف تبقى هـذه المواقف الدفاعية، والأفكار الدفاعية على حساب البناء الداخلي، والإنجاز الأهم. ونحن هـنا لا نقول: بأن الدفاعات غير مطلوبة، والحراسات لا قيمة لها. وإنما الذي نريد أن نوضحه: أنها عند الأمم التي تبصر مهامها تماما، وتدرك مشكلاتها حقيقة تقدر بقدرها.

ولنا في منهج القرآن خير دليل؛ فلو أن القرآن الكريم استجاب لكل تمحلات الكافرين وشكوكهم وشبههم لكانت آياته جميعها تمثل رد الفعل، والاستجابة لطلبات الكافرين، ولما تفرغ لبناء أمة، وإنجاز حضارة. والذي نلمحه من منهج القرآن في ذلك أنه طرح من الحقائق والأدلة ما يكفي لمن يريد الاستدلال، والذي لا يستدل بما طرحه من آيات وأدلة فلن يستدل، فالمشكلة لم تعد في الدليل، وإنما بعناد المستدل الذي لا بد من تجاوزه، إلى مرحلة البناء المرصوص، بحيث لا يوجد بعد ذلك مداخل وفراغات يملؤها الأعداء.

ومن جانب آخر، فلعل الأساليب الدفاعية، أو الأفكار الدفاعية تشكل نوعا من الراحة النفسية؛ لأنها في النهاية تعني فيما تعني إعفاء النفس من المسئولية، وإيجاد الذريعة لها عن عملية البناء، والواجب الحضاري المطلوب والغائب.

فإذا كان الكثير منا؛ على مستوى الأفراد، والمعاهد، والمؤسسات الأكاديمية لا يزال يعيش على مائدة المستشرقين؛ لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سبقنا إليها في مراحل السبات العميق، وإذا كان مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات من ابتكارهم ووضعهم فلا بد أن يصدق فينا قوله تعالى: ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) [إبراهيم:22] إلى حد بعيد. [ ص: 12 ] وإذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين في تدوين السنة من خلال وسائل عصرهم، وتأسيس ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث الذي حفظ لنا السنة، والذي كان من عطاء منهج القرآن في الحفظ والتدويل للوحي، فإننا لا نكاد نرى اليوم فيما وراء الشرح والاختصار سوى النقل لجهود السابقين من الخطوط اليدوية إلى حروف الطباعة. فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث تضعيفا وتقوية؛ لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنة في مواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميته وضرورته يبقى جهدا فكريا فرديا دون سوية البعد المطلوب، الذي يمكن من الانتفاع بكنوز الميراث الثقافي.

والذي ينظر اليوم إلى دوائر المعارف، والموسوعات التي شكلت لإنجاز الفقه الإسلامي بشكل عصري، يمكن من الإفادة منه، أو إلى مراكز بحوث السيرة والسنة، في أكثر من بلد إسلامي، وما وضع تحت تصرفها من الإمكانات، ومضي السنين الطويلة وهي لا تزال دون إنجاز يذكر، في الوقت الذي نرى أنفسنا مضطرين إلى الرجوع والنظر في موسوعة المستشرقين (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث) ؛ للتعرف على ما نريده، على الرغم من رأينا فيهم يدرك خطورة التخاذل الفكري، وخطورة الادعاء والتفاخر، والفراغ الرهيب، الذي مكن المستشرقين وغيرهم من احتلال عقولنا واستلابنا الحضاري.

وليست مجامع اللغة العربية، التي تحبس نفسها اليوم في مجادلات عقيمة على حساب الإنتاج المطلوب في معركة التعريب والمعاجم، بأحسن حالا من موسوعات الفقه، ومراكز السيرة والسنة. وحسبنا أن نقول: بأننا إلى اليوم لم [ ص: 13 ] ننتج معجما للغة، يناسب ابن العصر الحاضر من خلال تقدم وسائل الطباعة والفهرسة والألوان، ولا نزال إذا أردنا أن نفتش عن معنى لفظة نضطر لتجريدها إلى مادتها الأصلية، وتحديد الباب والفصل، ومن ثم الرجوع إلى المعجم، بعد هـذه الرحلة المضنية، التي قد يعزف المثقف معها عن الرجوع إلى المعاجم، في الوقت الذي تطورت خدمة اللغات ووسائل تعليمها ومعاجمها، إلى درجة مذهلة، بل يمكن أن نقول: إننا كنا الأقدر على نقد المعاجم العربية التي وضعتها المؤسسات التبشيرية؛ مثل المنجد: للأب لويس معلوف ، والأكثر عجزا في وضع معجم مناسب، ولا يزال الكثير منا في المدارس والمعاهد يرجع إلى المنجد على كره منه حيث يفرض وجوده؛ لأنه الأيسر.

لقد نجحت العقلية الأوروبية الاستشراقية في فرض شكليتها وآليتها على التحقيق، والتقويم، والنقد، والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الاستشراق والمستشرقين بادرت إلى التحقيق والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية. وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد، إلا أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهرا من مظاهر الاحتواء الثقافي.

لقد نجحت العقلية الأوروبية -كما أسلفنا- في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم ومناهج النقد، ويمكن القول: بأن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هـذا النهج في التاريخ والأدب وغيره، ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، وانتهت إلى إيجاد ركائز عربية معبرة عنها، ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها، حتى في الجامعات، والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية، التي اكتسبها بعض المثقفين العرب من الجامعات الأوروبية. لقد [ ص: 14 ] ارتهنوا للمنهج والمصدر في آن واحد.

صحيح أن الاستشراق خرج من المناخ الثقافي للاهوت الغربي بكل مكوناته، وتأسس واستمر ضمن إطار المناخ الاستعماري، وبدأ خطواته الأولى باتجاه العقل الأوروبي؛ ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام، لذلك جاءت معظم الدراسات والكتابات باللغات الأوروبية، ولمخاطبة أبنائها، وجاء جل هـذه الدراسات -إن لم نقل كلها- محكومة بدوافعها وأهدافها بعيدة عن التزام الموضوعية والعلمية؛ لأن التزام الموضوعية سوف يفوت غرضها، ذلك أن التزام الموضوعية سيكون بلا شك في صالح الإسلام، بوصفه دين الله الحق، البعيد عن مواضعات البشر وأخطائهم وتأثراتهم.

وهنا قضية لا بد أن نتنبه لها؛ لأنها قد تغيب عن أذهان كثير منا، ممن يعرضون لموضوع الاستشراق بشكل خاص، أو القضايا الفكرية والثقافية بشكل عام، وهي أن الإنتاج الفكري -والاستشراق بعض منه- هـو في الحقيقة يمثل الوليد الطبيعي والشرعي للثقافة التي تنتجه، ويربى في مناخها، فالمفكر هـو إلى حد بعيد رهين الثقافة التي ينشأ فيها، وليس وليدا للموضوع المدروس أو المطروح، باعتباره صاحب الحق الأول في الاهتمام والدراسة.

لذلك لا يستطيع أي مستشرق أن يتناول موضوعاته دون أن يخضع للقوالب والحدود الفكرية والعلمية المفروضة عليه مسبقا، بسبب من ثقافته التي يصعب عليه الانفلات منها.

لذلك قد يكون من الصعوبة بمكان وضع حدود فاصلة وواضحة بين: الاستشراق، والتبشير، والاستعمار.

والذين يجهدون أنفسهم في التفريق، بين: الاستشراق، والتبشير، والاستعمار؛ ليقيموا بذلك الجسور الثقافية الغربية إلى الداخل الإسلامي، [ ص: 15 ] كالذين حاولوا -ولا يزالون- إيجاد الفوارق بين: الصهيونية، واليهودية. وكم تكون مأساتنا كبيرة إذا اكتشفنا أن هـذا التفريق في النهاية ليس من اختراعنا واكتشافنا، وإنما هـو من جملة الفخاخ الثقافية التي نقع فيها.

نعود إلى القول: بأن الاستشراق بدأ خطواته الأولى باتجاه العقل الأوروبي ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام، فكانت الترجمات الأوروبية المبكرة للقرآن الكريم والسيرة، ومن ثم بدأت الدراسات التاريخية والاجتماعية والتراثية بعامة في المعاهد والجامعات والمراكز العلمية، التي أنشئت لتخريج القناصل والسفراء، والكتبة، والجواسيس؛ لتأمين مصالح بلادهم، وتوفير المعلومات عن بلاد العالم الإسلامي، وإقامة مراكز لدراسة هـذه المعلومات وتحليلها؛ لتكون بمثابة دليل للاستعمار، في شعاب الشرق وأوديته، من أجل فرض السيطرة الاستعمارية عليه، وإخضاع شعوبه وإذلالها، وارتهانها للثقافة الغربية، والوصول بها إلى مرحلة العمالة الثقافية.

لذلك لم يقتصر الاستشراق على مخاطبة العقل الأوروبي، كما لم تقتصر كتابات المستشرقين ودراساتهم على حماية الأوروبي من اعتناق الدين الإسلامي، وإن كان ذلك هـو الهدف الأول، وإنما تجاوزت إلى محاولة إلغاء النسق الفكري الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم وفق النسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي؛ لممارسة هـذا الدور، والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات، والإعلام، والتربية في العالم الإسلامي؛ لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هـو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب، والمدرس في كثير من الأحيان.

لذلك نرى أن علماء الاجتماع، والنفس، والتربية، هـم الذين يمثلون الصورة الأحدث للمستشرقين، في الوقت الذي يمارس فيه الخبراء الذين [ ص: 16 ] يستوردون إلى عالمنا التسويق الثقافي. فالصورة التي ترسمها وسائل الإعلام اليوم، والقرارات التي يتخذها أصحاب السلطان، التي تخص العالم الإسلامي هـي من صناعة علماء الاجتماع وتسويق الخبراء.

لقد تطورت أهداف وأساليب الاستشراق تطورا مذهلا، وإن كان الكثير منا لا يزال مصرا على المرابطة في المواقع القديمة والمحاربة في المعارك المنتهية، التي مضى عليها أكثر من نصف قرن على أحسن الأحوال، والخروج من الزمان والمكان. كذلك فالقول بأن المستشرقين يكتبون لأبناء جلدتهم، إن صدق هـذا، فإنه يصدق على مرحلة البدايات الاستشراقية التي ما نزال نقف عندها، أما تعميمه على كل إنتاج المستشرقين ففيه الكثير من المجازفة.

لقد اهتم المستشرقون بالتشكيل الثقافي للأمة المسلمة في ضوء رؤية معينة، وخطة مدروسة؛ لذلك ولجوا جميع الميادين، وحاولوا الوصول والتحكم بالموارد الثقافية كلها، وبحثوا ونقبوا وأثبتوا وجهة نظرهم وتفسيرهم في الكثير من القضايا المعرفية، إلى درجة يمكن معها القول: بأن الاستشراق استطاع أن يملي على الكثير منا وجهة نظره، في مجالات متعددة، بشكل أو بآخر، وإن كان مدى التأثير يختلف من شخص إلى آخر.

لقد كتبوا في الأدب، واللغة، والتاريخ، والثقافة، في محاولة لبناء الذهنية الإسلامية وفق النمط الغربي، من خلال المناهج ومصادر الدراسة، ومراجع البحوث، في الجامعات والمدارس، ومن خلال عملية الابتعاث والتلمذة على أيدي أساتذة الأقسام العربية والدراسات الشرقية في الجامعات الأوروبية والأمريكية، لذلك نرى الكثير من المثقفين لا يدركون أنفسهم إلا من خلال رؤية الآخرين، فلم يعد في وسع الكثير منهم أن يكتب عن التراث والتاريخ والأدب دون الرجوع إلى كتابات المستشرقين، [ ص: 17 ] وأصبحت الموارد الفكرية الخارجية هـي التي تصنع الثقافة الداخلية، أو أصبح الخارج هـو الذي يتحكم بالداخل الإسلامي؛ بسبب من مركب النقص، وعقدة تفوق الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى الاستلاب الحضاري، وذلك بتسليط نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية الغربية، وصولا إلى السيطرة الفكرية الكاملة.

ولما كان هـذا الاستلاب يمكن أن يكون من المنبهات والاستفزازات الحضارية، خاصة بالنسبة لأمة تمتلك شخصية حضارية تاريخية، ولا تزال تحتفظ بخميرة الإمكان الحضاري، عدل المستشرقون بأساليبهم المتطورة عن الطرح المباشر إلى محاولة تحييد الإسلام عن واقع الحياة، والدعوة إلى العلمانية .

ولما اكتشف مدلول مصطلح: العلمانية، وأنه كلمة حق أريد بها باطل، وأنها تعني فيما تعني: اللادينية، وإسقاط الأديان من البناء الحضاري والثقافي للأمة، كان لا بد من التفتيش عن البديل، فطرح مصطلح العقلنة والعقلانية ، إذ كيف لا يقبل المصطلح والإسلام دين العقل؟ ولما سقط، طرح فصل الدين عن الدولة، في العالم الإسلامي. كان البديل جاهزا أيضا: إن المطلوب اليوم هـو فصل الدين عن السياسة، أو عدم تسييس الدين.

وللوصول إلى إعادة التشكيل الثقافي، وفق النمط الغربي، كان لا بد أيضا من إلغاء عملية التواصل الفكري والثقافي بين الأجيال، ومحاولة فصل الحاضر عن الميراث الثقافي، وذلك بالتقليل من قيمته، والقيام بعملية التقطيع والتجزيء، أو قراءته بأبجدية النسق الغربي، وتفسيره تفسيرا مذهبيا، لا تفسيرا منهجيا من خلال قيمه التي صدر عنها، أو القيام بعملية الانتقاء من التراث الفكري والأدبي للمواضع التي تهز ثقة المسلم بتراثه، والاقتصار [ ص: 18 ] على إبراز النقاط السود، والتضخيم لحركات الرفض والخروج، والعناية بفكرها وطروحاتها، أو بمحاولة محاصرة اللغة العربية، التي تعتبر من أهم أدوات التوصيل والنقل التراثي؛ وذلك بتسييد العامية، والتشجيع عليها، إلى درجة الكتابة بها، وإلغاء الحرف العربي من لغات شعوب العالم الإسلامي، الذي يشكل حلقة التواصل الأساسية مع الموروث الثقافي والحضاري؛ لقطع الجيل عن ماضيه، وعزل اللغة العربية عن المعاهد، والمدارس، والجامعات، وتدريس العلوم باللغات الأوروبية، في محاولة ماكرة للتفريق بين لغة العلم -وهي طبعا الأوروبية؛ لأنها لغة المنجزات العلمية الحديثة في الهندسة، والطب، والعلوم، والحاسبات الإلكترونية، فالكتب المدرسية والمصادر والمراجع لا تتحقق إلا بها- وبين لغة الدين، وهي العربية التي يجب أن تحاصر في المساجد والمعابد وأداء المناسك والشعائر. وترسيب القناعة بأن العربية هـي من أسباب التخلف العلمي في العالم الإسلامي، وحتى تتم التنمية ويحصل النهوض لا بد من لغة للمعهد؛ هـي الأوروبية، وأخرى للمعبد؛ وهي العربية، وبذلك تكون الأوروبية لغة العلم، وتنتهي العربية إلى ألفاظ عبادية نفتقد معانيها شيئا فشيئا؛ لقلة الاستعمال، وتنزوي في المعابد، شأنها شأن اللغات القديمة كالسريانية وغيرها، التي اقتصرت في نهاية المطاف على رجال الدين وبعض زوار المعابد، الذين يرددونها بلا فهم ولا إدراك.

والمشكلة أن هـذه المحاولة الماكرة بدأت تتسرب إلى رأس كثير من الذين يشغلون مناصب مؤثرة في صنع القرار التربوي والسياسي في العالم الإسلامي. ولعلها في مغرب العالم الإسلامي أكثر وضوحا وبروزا منها في مشرقه.

وأكتفي في هـذا المجال بالإشارة إلى أسبوع المحاضرات الذي نظمه [ ص: 19 ] المستشرقون المقيمون في تونس في معهد قرطاج التبشيري منذ سنة 1907م، وأصدروا فيه بيان موت اللغة العربية، والذي أعلن أن الشعوب المغربية لا يمكن لها أن تحقق التقدم إلا من خلال تخليها عن اللغة العربية، واعتناق الفرنسية؛ كوسيلة للثقافة والحضارة والعلم.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى المحاولات المستميتة لإحياء اللهجات واللغات القديمة، التي توشك على الانقراض، ومحاولة إحلالها محل العربية، وإقامة كراسي في الجامعات والمعاهد الأوروبية لإحيائها، وتقديم رسائل الماجستير والدكتوراة في دراساتها، ومحاولة وضع معاجم لها، ولعل قسم دراسات اللغة البربرية الذي أقامته فرنسا في السوربون مؤخرا خير شاهد لذلك، فالعربية لا تصلح لغة العلم، أما اللغات المنقرضة التي تم إحياؤها لمحاربة العربية وإثارة النعرات الإقليمية، التي تمزق عالم المسلمين، فتقام لها المراكز وتؤسس لها المعاهد، وتوضع لها المعاجم.

يضاف إلى ذلك تشجيع النماذج والأعمال الفكرية التي تسير وفق النمط الغربي، أو تحاكي مناهج الغرب، وتغادر أصولها المنهجية، ونسقها الثقافي، باسم الحداثة والتجديد، والتخلص من قواعد اللغة، التي تحبس انطلاق المعاني، وعمود الشعر التقليدي الذي يحول دون الدفقة الشعورية، والترويج لأصحاب هـذا اللون من الإنتاج الفكري، واعتبارهم طلائع التحرر والتقدم والتنوير.

والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها أن إنتاج المستشرقين الذي يملأ الساحة الفكرية والأكاديمية اليوم، ويشكل المرجع والمصدر والمنهج جاء ثمرة لغيابنا العلمي، وتخاذلنا الثقافي، ومواجهتنا العابثة التي لم تكلفنا شيئا. واكتفينا بالجلد، والإدانة، والتفاخر، والتعالي بالأصوات، [ ص: 20 ] والخطب الحماسية، بينما انصرف المستشرقون للإنجاز والإنتاج، والتصنيع الفكري، والتسويق في بلادنا الخالية من إنتاجنا. فنحن نحاول أن نغطي عجزنا بإلقاء التبعة على الآخرين، وبقيت أنظارنا موجهة إلى الخارج، دون أن ننظر -ولو مرة واحدة- إلى الداخل الذي استدعى ذلك الخارج ومكن له.

لقد نشر المستشرقون وحققوا عددا ضخما من المؤلفات العربية، لا تزال مرجعا للباحثين والدارسين من الأوروبيين، والعرب أنفسهم. ولم يكتفوا بالتحقيق والنشر لأمهات الكتب؛ في السيرة، والتاريخ، وعلوم القرآن، والتراجم، والملل والنحل، والنحو، والتفسير، بل تجاوزوا ذلك إلى التأليف في الدراسات العربية والإسلامية، حتى بلغ عدد ما ألفوه في قرن ونصف -منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين- ستين ألف كتاب في التاريخ والشريعة، والفلسفة، والتصوف، وتاريخ الأدب، واللغة العربية.

ولا يزال تاريخ الأدب العربي: لكارل بروكلمان ، مرجعا لا يستغني عنه أي باحث في الدراسات العربية والإسلامية.

ولا يقتصر هـذا الكتاب على الأدب العربي، وفقه اللغة، بل يشمل كل ما كتب باللغة العربية من المدونات الإسلامية، فهو سجل للمصنفات العربية؛ المخطوط منها والمطبوع. وقد عمل به المؤلف نصف قرن تقريبا.

ولا بد أن نشير هـنا أيضا إلى الأطلس الجغرافي التاريخي للشرقين الأدنى والأوسط، الذي هـو قيد الإعداد الآن، ويتوفر على إنجازه مجموعة من المستشرقين في ألمانيا الاتحادية ، ويشمل الأقطار الممتدة من السودان غربا، إلى [ ص: 21 ] أفغانستان شرقا، ومن جنوب بلاد العرب، إلى البحر الأسود في الشمال، وخرائطه لا تتناول المواضع الجغرافية والتاريخية بالمعنى التقليدي، بل تتجاوز إلى مواضع لم يسبق لأحد أن تناولها في الأطالس، مثل: المدارس الفقهية، والفتن السياسية، وبعض مظاهر الاتصال، وأماكن العبادة، وتوزيع السكان. وسوف ينتهي في أواسط التسعينيات.

ولا يتسع المجال في هـذه العجالة للتفصيل في مجال الدراسات المتعددة الأخرى والمعاجم والترجمات من العربية إلى اللغات الأوروبية. فماذا فعلنا نحن إذا ما قيس إنتاجنا لتراثنا بإنتاجهم لتراثنا؟ إننا ما زلنا نستغرق طاقاتنا كلها في التهجم على الآخرين دون إنتاج مقدور.

ويضاف إلى ذلك: إصدار أكثر من خمسمائة مجلة تتعلق بالاستشراق، وثلاثمائة أخرى متخصصة به، إلى جانب ذلك العدد الهائل من الكتب والأبحاث، والدراسات، والمقالات، التي تصب على رأس أبناء المسلمين؛ سواء عن طريق الترجمة، أو التمدرس على اللغات الأصلية للمستشرقين، وفي مؤسساتهم، ومعاهدهم، أو ما يمكن أن يتم عن طريق الابتعاث العشوائي، غير المخطط، أو المبرمج، من عمليات التأثير والنقل الثقافي، وإيجاد المعابر والجسور للوصول إلى المعاهد، والجامعات، والمناصب المؤثرة في العالم الإسلامي، ووقوعه في دائرة التحكم والاحتواء الثقافي.

ونحن هـنا في العالم الإسلامي لا نقتصر على الابتعاث العشوائي إلى جامعات ومعاهد الغرب، بدون أن نزود الطالب بدليل فكري، ومقياس ثقافي لكيفية التعامل مع ثقافة الغرب، وإنتاجه الفكري، بل نصر على تكريس حالة التخلف، والتخاذل الثقافي أمام الآخرين. وبدل أن نقيم ندوات [ ص: 22 ] ومؤتمرات تطرح من خلالها مشكلات المبتعثين العلمية والفكرية والثقافية، ونكون على إدراك مسبق بما تقدمه مراكز البحوث والدراسات والجامعات، ومراكز الإعلام هـناك، ونفتش له على المتخصصين، القادرين على معالجته، ومناقشته مع الطلبة، والمبتعثين، وتبصيرهم بدوافعه، وأهدافه، ومنطلقاته، وأغواره، وكيفية التعامل معه، وكيفية الإفادة من إيجابياته؛ نقيم مؤتمرات لاتحادات الطلبة، ونحمل إليها مشكلاتنا، وقضايانا، وخلافاتنا في العالم الإسلامي، وإن لم توجد خلافات معاصرة نستنجد بالتاريخ ليمدنا بمشكلات فكرية، وعقيدية، مضت بخيرها وشرها، وقد لا يكون الطلبة سمعوا بها من قبل، فنصبها فوق رءوسهم؛ لنمزق وحدتهم ونكرس خصوماتهم، ونفرق جمعهم، ونحضرهم، شئنا أم أبينا، ليكونوا ضحايا الاستشراق والغزو الثقافي.

والذي يراجع قوائم الخطباء والمتحدثين في تلك المؤتمرات من سنوات يراهم هـم أنفسهم يصلحون لكل المناسبات، وكل الموضوعات، وكل المواسم، وقد لا يرى بجوار ذلك ندوة متخصصة بحاجات المبتعثين الأصلية، ونوعية دراساتهم، واهتماماتهم، والمستقبل الذي نعدهم له، ونطلبه منهم، إلا ما رحم الله.

فمتى نرتقي بندواتنا ومؤتمراتنا، ونبصر الساحة الثقافية والفكرية، التي يخضع لها هـؤلاء الطلبة، ونرسل لهم المتخصصين في العالم الإسلامي، يلتقون بهم ويعالجون قضاياهم العلمية والثقافية؟ فذلك أجدى من أن يبقى كياننا الفكري قائما على مهاجمة الآخرين، دون أن نقدم البديل، وفي تلك الحال سوف ينتهي هـجومنا إلى مصلحة الآخرين.

وهنا قضية قد يكون من المفيد أن نعرض لها، ونحن بسبيل الكلام عن [ ص: 23 ] بعض ملامح التحكم الفكري، والاحتواء الثقافي، الذي يمارسه الاستشراق، في المعاهد والجامعات، والأطر الأكاديمية، والغزو الفكري، في نطاق الإعلام والتشكيل الثقافي، وهي قضية اللغة بشكل عام.

فمما لا شك فيه أن اللغة أمر كسبي، بمقدور كل إنسان أن يتعلمها ويبدع فيها، والواقع يؤيد ذلك، ويؤكده على مستوى اللغات جميعا. ولو أخذنا ما يهمنا هـنا، اللغة العربية، لأمكننا القول:

إن الكثير من أئمة اللغة بصرفها، ونحوها، وفقهها، هـم من الأعاجم، الذين أسلموا وتعلموا العربية. ولسنا بحاجة هـنا لذكر أولئك الأئمة، فالذي يمتلك حدا أدنى من الثقافة، أو يستخدم القدر الأقل من المراجع اللغوية سيراهم موجودين أمامه باستمرار، ولا أدري إذا افترضنا أن اللغة لا يمكن معرفتها، وإدراك أسرارها إلا من أبنائها ماذا سيكون موقفنا من الخطاب القرآني العالمي، الذي يتوقف فهمه على معرفة اللغة العربية، وإدراك معهود العرب بالخطاب؟ وكيف يمكن أن يتم التكليف، وتبنى أمة مسلمة -واللغة من أهم عوامل التفاهم والتواصل وبناء الثقافة، وصياغة الشعور، وترتيب التفكير- إذا قررنا أن اللغة وقف على أبنائها فقط؟ وما مصير المكتبة اللغوية، التي تعتبر مصدرنا إذا أسقطناها بسبب أن مؤلفيها من غير العرب؟

لذلك نعتقد أن القول: بأن اللغة لا يدرك أسرارها إلا أبناؤها فيه الكثير من التجاوز، ومناقضة الحقائق الواقعة. ولو أن إدراك اللغة على غير العرب مستحيل لكان الخطاب القرآني تكليفا بما لا يطاق، وهذا مستحيل شرعا وعقلا.

وقضية أخرى نرى من الضروري التنبه إليها أيضا، وهي قضية الثقافة [ ص: 24 ] الذاتية للأمة. فالأمر الذي لا بد من إيضاحه ابتداء: أن الثقافة الإسلامية هـي ثقافة عالمية، وأن الخطاب القرآني أو الخطاب الإسلامي الذي يشكلها خطاب عالمي، وأن الحضارة الإسلامية جاءت ثمرة لمساهمات عالمية لكثير من الشعوب والأمم، وكانت نتيجة للخطاب الإسلامي، يصعب تقطيعها، وفرز ألوانها القومية، فهي إنسانية في دعوتها، وهدفها، ومنطقها، وإنتاجها، وإن كانت قاعدتها البشرية الأولى من العرب.

لذلك فالتجاوز أكثر من اللازم في التأكيد على الخصوصية الثقافية يخشى أن يؤدي إلى نزع صفة العالمية ومحاصرتها، ويغلق الطرق أمام انسلاك ومساهمة الشعوب البشرية الأخرى فيها، وتعطيل التبادل المعرفي، باسم: التخوف من الغزو الفكري. وبذلك نعين الأعداء على الانتصار علينا.

أما النظر إلى موضوع التاريخ الإسلامي واعتباره هـو الإسلام فأمر محل نظر؛ فالمعروف أن مصدر التشريع في الإسلام هـو القرآن الكريم، وبيانه السنة النبوية، وهو الحاكم على فعل البشر بالخطأ أو الصواب، وأن التاريخ الإسلامي لا يخرج عن اجتهادات بشرية في تنزيل القيم على الواقع، أو في تحويل القيم إلى فعل، قد تخطئ وقد تصيب، مثله مثل أي اجتهاد بشري فكري، أو فقهي آخر. فاعتبار التاريخ الإسلامي هـو الدين، وهو مصدر التشريع والأحكام، فيه الكثير من المجازفة. فالتاريخ الذي هـو وعاء الحياة الإسلامية العملية، في استجابتها للقيم الواردة في الكتاب والسنة، هـو محل العبرة والعظة والدرس، وفيه من السلبيات والإصابات، التي كان فيها عدول عن القيم ما يجب تجنبه، وفيه من الإنجازات العظيمة المتسقة مع القيم ما يجب الاهتداء والاعتزاز به، وتبقى القيم هـي الضابط وهي الحاكم على تصرفات البشر ومسالكهم. وحبنا للتاريخ، وانتصارنا له، [ ص: 25 ] لا يجوز أن يجعلنا نتجاوز هـذه الحقيقة. وكم ستكون الخطورة كبيرة إذا لم نضبط التاريخ، ونحكم عليه بالقيم، من التفسيرات والإسقاطات التاريخية، التي يحاول أعداء الإسلام توظيف التاريخ لها اليوم، وكم ستكون الخطورة أكبر إذا أصبح التاريخ دينا، وتفسيره ملزما، واعتبر النص والفعل التاريخي كالنص الإلهي.

وقد يكون الدافع لذلك كله غياب روح النقد، والخوف من الاعتراف بالخطأ، الذي ما يزال يشكل المناخ العقلي المغشوش لكثير منا؛ ذلك أن هـذا المناخ هـو السبب وراء سقوطنا في الفخاخ المنصوبة لعقولنا، بأيد ماهرة من المستشرقين، الذين أدركوا ذلك فأتقنوا فن المديح؛ الإشادة بحضارتنا وتاريخنا، الأمر الذي حرك مكامن الفخر فينا، وساهم بحالة الاسترخاء، والسبات العام، والاكتفاء بإنجاز الآباء والأجداد، وأدى إلى شلل الأجهزة الفكرية عن معالجة الحاضر، واستشراف المستقبل، فأصبح حالنا كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: شبيه بحال ذلك الفقير الذي لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عندما نتحدث له عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إننا بذلك الحديث نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر، يعزل فكره مؤقتا، وضميره عن الشعور بها، إننا قطعا لا نشفيها، فكذلك لا تشفى أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه.

كان هـذا حال المستشرقين المداحين، الذين قصوا علينا تلك النشوات التي تخامر عقولنا، حتى تتعلق عيوننا على صورة سامرة لماض مترف.

وكثيرا ما كان المديح أو حتى إعلان اعتناق الإسلام مدخلا ووسيلة تعتبر الأخطر للدخول علينا، وتخريب ثقافتنا من الداخل؛ لأن المديح حال بيننا وبين البصارة الصحيحة للأمور، وعطل فينا أجهزة الاستقبال والفحص [ ص: 26 ] والاختبار، تحت عنوان: الخير ما شهدت به الأعداء.

لقد عطل فينا هـذا الشعار الاستجابة للمنبهات الحضارية إلى حد بعيد، وقبلنا من المداحين كل شيء تقريبا. ولعل إصابات المداحين كانت هـي الأخطر في النهاية، خاصة عندما نكتشف أن دخولهم في الإسلام كان ممرا إلينا، وليس حقيقة.

ونستطيع القول: بأن الحملات الاستشراقية بعامة لم تتمكن من القضاء على ثقافتنا، وإن ألحقت بها بعض الإصابات، التي يمكن اعتبارها من قبيل الأذى، ( لن يضروكم إلا أذى ) [آل عمران:111]، وأن معظمها كان إلى حد بعيد أشبه بالمنبهات الحضارية، ورب ضارة نافعة.

إن عمليات الاستشراق والتغريب لم تستسلم، ولم تلق السلاح، لكن لما أعياها السعي؛ فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العالم الإسلامي تحاول اليوم أن تعتبر أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلا، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسب في النفوس أن السبب في التخلف، والعجز، والتخاذل الثقافي، وعدم القدرة على الإبداع، وقبول الفكر الغربي هـو في بنية هـذا العقل، وتكونه، وميراثه الثقافي.

فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضا بموروث ثقافي لا يستطيع الفكاك منه، فهو لا يفكر بطلاقة وحرية؛ لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش، والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات. [ ص: 27 ] وأن الإسلام الذي يكون هـذا العقل، هـو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى به إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع، وأن العنصر العربي مادة الإسلام الأولى عنصر متخلف بفطرته وطبيعته الجنسية والمناخية، وأن دور العلماء المسلمين تاريخيا اقتصر على النقل لميراث الحضارات الأخرى، وأن علاج الأمة المسلمة، سوف لا يتحقق إلا بإعادة بنية العقل العربي وفق الأنموذج الغربي.

لذلك رأينا الكثير من الدراسات اليوم لخريجي المدرسة الاستشراقية تتجه إلى طروحات؛ من مثل: بنية العقل العربي، ونقد العقل العربي، وخطاب إلى العقل العربي... إلخ، وأن أول ما نلاحظ أن منهج النقد يتم طبقا لآليات ومعايير وطروحات الفكر الغربي، وينطلق غالبا من الترسبات التي تركها الاستشراق في ضحاياه، لذلك نراها تتخبط كثيرا في الخلط بين العقل كآلة للتفكير وبين الإنتاج الفكري لذلك العقل.

وقد يلفت انتباهنا أحيانا بعض القضايا التي يطرحونها، لكن لا نلبث أن نطلع عليها في مصادرها الاستشراقية، فنتأكد من جديد أن هـؤلاء التلامذة لا تخرج مهمتهم عن الشحن من هـناك، والتفريغ هـنا. لذلك نراهم يخطئون في أبسط القضايا، إنهم يخطئون حتى في الأسماء العربية الواضحة؛ لأنهم يقرءونها قراءة أعجمية استشراقية، ولا نرى هـنا أننا بحاجة إلى إيراد الأمثلة.

وخلاصة القول في هـذا الأمر: إن مناهجنا في المعالجة لا تزال يعوزها الكثير من التأصيل، والتخطيط والتقويم، ودراسة الجدوى، وطبيعة التناول ومساحته، والتنبه إلى مخاطر المستشرقين الذين يمدحون الإسلام، ويحركون غرائز الزهو والافتخار عند المسلمين تجاه الماضي؛ ليتسللوا من خلالها، وهذا هـو الأخطر؛ لأنهم يساهمون بحالة الخدر العام، من أولئك المستنفرين الذين [ ص: 28 ] يستثيرون فينا غرائز الدفاع عن النفس، وحماية الذات؛ ذلك أن المديح إنما يكون في كثير من الأحيان تحويلا إلى الماضي، والاستغراق فيه على حساب مشكلات الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل.

صحيح أن الماضي هـو الذي يدعم التماسك الثقافي، ويشكل الجذور التي تحول دون الاقتلاع، إلا أن هـذا الماضي بالرغم مما قدم في إطار تحقيق الذات وضمان تماسكها كاد ينقلب الاقتصار عليه إلى ظاهرة مرضية، تحبس الإنسان في ملاجئها، وتحول بينه وبين النهوض، وذلك عندما يصبح الاستغراق في التشبث بالماضي صارفا للإنسان عن صناعة حاضره، ومعالجة مشكلاته، والتفكير في مستقبله.

وحتى نكون في مستوى الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلا الغزو الفكري، والإغراق الاستشراقي لا بد لنا بدل البكاء على الأطلال، والاكتفاء بجرعات الفخر والاعتزاز بالماضي أن نكون أيضا قادرين على امتلاك الشوكة الفكرية، أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار، والتبادل المعرفي، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائما، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولا؛ لملء الفراغ بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات، وتسليحها بالمقاييس الثقافية السليمة، وإنتاج مناهج، وآليات للفهم، تأتي وليدا شرعيا لثقافتنا.

ذلك أن المناهج وآليات الفهم، التي تحكم الكثير من جامعاتنا ومعاهدنا لا تزال من صناعة الفكر الغربي، انتهت إلينا بسبب التخاذل الفكري الذي نعيشه. وتلك المناهج هـي ثمرة لتشكيل ثقافي معين، تصنعه وتصنع به، غير منفكة عنه. لذلك فمن الصعب نقلها واستخدامها في إنتاج [ ص: 29 ] ثقافي آخر، والاطمئنان عندها إلى نتائج الفكر.

وبعد:

فإن الكتاب الذي نقدمه اليوم في السلسلة للأخ الدكتور عبد العظيم الديب حول المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي، والذي تعقب فيه بعض المستشرقين في واحد من أهم مجالات التراث الإسلامي، في التاريخ وهو المجال الأخطر، فقدم نماذج لفساد المنهج، وسوء المقصد، وهو أحد المهتمين بالتاريخ رغم اختصاصه في الفقه وأصوله، بل لعل اختصاصه بالأصول هـو الذي منحه القدرة على الكلام في المنهج، ومكنه من هـذا التتبع والتعقب، الذي يحتاج إلى الكثير من الدأب والصبر والتدبر؛ ذلك أن التدليل على فساد المنهج يغني عن متابعة النواتج الفكرية، وينزع عنها صفة العلمية والحياد بشكل عام.

وإذا كان كتاب الأمة الخامس الذي بحث فيه الدكتور محمود حمدي زقزوق : (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) ، يمكن أن يصنف في إطار التنظير، فإن كتاب الدكتور عبد العظيم الذي يقدم النماذج العملية في إطار التاريخ، يعتبر ضميمة مكملة لا بد منها، نسأل الله أن ينفع بها، ويجزي مؤلفه خير الجزاء.

هو حسبنا ونعم الوكيل. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية