الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1147 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          فإن حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد ، مثل : أن يقول : بالله لا كلمت زيدا ، والرحمن لا كلمته ، والرحيم لا كلمته ، بالله ثانية لا كلمته ، بالله ثالثة لا كلمته - وهكذا أبدا في مجلس واحد ، أو في مجالس متفرقة ، وفي أيام متفرقة : فهي كلها يمين واحدة - ولو كررها ألف ألف مرة - وحنث واحد ; وكفارة واحدة - ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف السلف في هذا - : روينا من طريق حماد بن سلمة عن أبان عن مجاهد قال : زوج ابن عمر مملوكه من جارية له ، فأراد المملوك سفرا فقال له ابن عمر : طلقها ؟ فقال المملوك : والله لا طلقتها فقال له ابن عمر والله لتطلقنها كرر ذلك ثلاث مرات ؟ قال مجاهد لابن عمر : كيف تصنع ؟ قال : أكفر عن يميني ، فقلت له : قد حلفت مرارا ؟ قال : كفارة واحدة . [ ص: 313 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن مجاهد عن ابن عمر قال : إذا أقسمت مرارا فكفارة واحدة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إبراهيم النخعي إذا ردد الأيمان فهي يمين واحدة .

                                                                                                                                                                                          وعن هشام بن عروة أن أباه سئل من تعرضت له جارية له مرارا كل مرة يحلف بالله أن لا يطأها ؟ ثم وطئها ؟ فقال له عروة : كفارة واحدة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد ، في مجالس شتى .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : إذا حلف في مجالس شتى قال : كفارة واحدة .

                                                                                                                                                                                          قال : وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل هذا ؟ ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد ، وقتادة عن الحسن قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد في مجالس شتى - وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، وأحمد .

                                                                                                                                                                                          وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأبي عبيد ، وأحد قولي سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن ابن عمر ، وابن عباس : إذا أكد اليمين فعتق رقبة .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : إن كان ذلك في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس شتى فكفارات شتى .

                                                                                                                                                                                          صح ذلك عن قتادة ، وقال عمرو بن دينار : يقولون ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال سفيان الثوري في قول له : إن نوى باليمين الأخرى يمينا ثانية فكفارتان ، وقال عثمان البتي ، وأبو ثور : إن أراد التكرار فيمين واحدة وإن أراد التغليظ فلكل مرة كفارة .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الشافعي إلا أنه عبر عنه بأن قال : إن أراد التكرار فكفارة واحدة ، وإلا فلكل مرة كفارة - فلم يخرجه عن أن يكون لكل مرة كفارة ، إلا بأن ينوي التكرار فقط - ثم لم يشترط إرادة التغليظ .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أراد التكرار فيمين واحدة ، وإن لم تكن له نية ، وأراد التغليظ ، أو كان ذلك في مجلسين فصاعدا ، فلكل يمين كفارة . [ ص: 314 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا نعلم لمن رأى في تأكيد اليمين عتق رقبة - فقط - حجة ، لأن الله تعالى حين بين الرقبة ، والإطعام ، والكسوة ، وقد علم أن هنالك أيمانا مؤكدة ، قال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } .

                                                                                                                                                                                          ولا نعلم لمن فرق بين أن يكون ذلك في مجلس وبين أن يكون في مجلسين فصاعدا حجة إلا الدعوى أنها يمين واحدة ، في مجلس ، ويمين ثانية في المجلس الثاني .

                                                                                                                                                                                          وهذه دعوى لا يصححها برهان ، وكل لفظ فهو بلا شك غير اللفظ الآخر ، كما أن كل مجلس غير المجلس الآخر ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وكذلك لا ندري لمن فرق بين التغليظ وغير التغليظ حجة أصلا إلا الدعوى بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          وأما من قال : إن نوى التكرار فهي يمين واحدة ، وإلا فهي أيمان شتى ، فما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : هي ألفاظ شتى ، فلكل لفظ حكم ، أو أن يقيسوا ذلك على تكرار الطلاق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن النص جاء في القرآن بأن حكم الطلقة الثالثة غير حكم الثانية ، وغير حكم الأولى ، ولم يأت ذلك في الأيمان .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إنها ألفاظ شتى ، فنعم ، إلا أن الحنث به تجب الكفارة لا بنفس اليمين فإن الأيمان لا توجب الكفارة أصلا ، ولا خلاف في ذلك ولا يوجب الكفارة إلا الحنث ، فالحنث فيها كلها حنث واحد بلا شك ولا يجوز أن يكون بحنث واحد كفارات شتى ، والأموال محرمة ، والشرائع ساقطة ، إلا أن يبيح المال نص ، أو يأتي بالشرع نص وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وهذا مما خالف فيه الحنفيون ، والشافعيون ، ابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية