الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 641 ]

                                                          وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد في هذه الآية الكريمة بيان الغاية التي تغياها من يريد أن يخدع الناس ، فهو يخدعهم ليمكن لأهوائه وشهواته . وإذا تمكنت الأهواء والشهوات واندفع الشخص في اجتراعها ، يشتار عسلها من غير دين رادع ، ولا حكم زاجر - سرى الفساد في جسم الأمة كما يسري الداء العضال في جسم المريض ، وبذلك يهلك الحرث والنسل ، أي يهلك الزرع والحيوان ، وفيهما جماع حاجات بني الإنسان ، فما من أمر يحتاج إليه الإنسان في مقومات جسمه إلا كان من الحيوان أو من النبات ، وهلاكهما كناية عن الخراب العام ، والضيق الشديد ، والفساد المستحكم ، وضياع المصالح .

                                                          والحرث : مصدر حرث يحرث ; بمعنى أثار الأرض لإعدادها للزراع ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض نفسها ، ثم أطلق وأريد به ثمرات الحرث وهو الزرع الذي حان حصاده ، والثمر الذي آتى أكله ; والمراد به هنا ذلك .

                                                          والنسل في أصله : مصدر نسل ينسل بمعنى خرج وسقط ، ومنه قوله تعالى : إلى ربهم ينسلون وقوله تعالى : من كل حدب ينسلون أي يخرجون ، ثم أطلق على خروج الحيوان من بطن أمه وولادته ، ثم أطلق وأريد به ذات الحيوان الوليد .

                                                          وفي التعبير بهلاك الحرث والنسل بسبب استحكام الشهوات وسيطرة أهل الأهواء ، إشارة كما قلنا إلى عموم الفساد في المدائن والقرى ، وبين أهل الزرع وسكان البوادي ، أي بيان عموم الشر للحاضرة والبادية ; لأن هلاك النسل رمز لهلاك ما تقوم عليه البادية وما به قوام حياتها ; إذ إن رأس مال البادية النعم من الإبل والبقر والغنم وأخواتها ، وقيام الثروة في سواد الأرض الزرع وما تنتجه [ ص: 642 ] الأرض ، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات ، فقد عم الفساد ; وهلك العباد .

                                                          وقوله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها قد قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين : إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإصلاح ، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس ، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا .

                                                          وعلى الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده : إن ذلك الذي يدعي الصلاح والإصلاح ، وحب الخير والمنفعة ، ويعلن ذلك بحلو اللسان ، ويقسم عليه الأيمان ، ويجادل عنه بأبلغ البيان - إذا تفرقت المجالس ، وانصرف إلى العمل ، بدت طويته ، وظهرت نيته ، وانكشفت سريرته ، فاندفع في الشهوات ينال منها ; وقد ترك قوله دبر أذنه ، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفي حقيقة أمره ، فيكون منه الشر والفساد ، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال ، وكانت العاقبة السوءى .

                                                          وعلى الأمر الثاني ، وهو أن يكون معنى تولى صار واليا : أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة ، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته ، ونال طلبته ، وصار واليا على الناس ، لا يسعى لنفعهم ، ولا يقيم الحق بينهم ، بل يسعى لإشباع رغباته ، ويحكم الناس لنفسه لا لهم ، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم ، أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس ، كما كان الشأن في أبي حفص عمر رضي الله عنه ، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه ، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لا يحصيها العد .

                                                          وهذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لا لهم ، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه ، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن سعيه لا محالة يؤدي إلى الفساد ، لا إلى الصلاح ، لأن الطمع يلد الطمع ، والهوى يلد الهوى فتتسلسل [ ص: 643 ] الأهواء في سلسلة أولها إعجاب بالنفس وزهو وخيلاء ، وآخرها ضياع وفساد ، وهلاك للحرث والنسل ، ثم ذل واستخذاء .

                                                          واللام في قوله تعالى : ليفسد فيها هي التي يسميها العلماء لام العاقبة أي أنها تشير إلى أن العاقبة - في عمل المتولي الذي يحكم الناس لنفسه ولرغباته وأهوائه لا لمصالحهم ونفعهم - هي الفساد في الأرض ، والهلاك العام لكل ينابيع الثروة في البلاد ، والله يتولى برحمته العباد .

                                                          ونحن نختار أن يكون معنى التولي هو صيرورته واليا ; لأنه ذلك هو الذي يتفق مع الآية الآتية ، وهي قوله تعالى :

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية