الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 558 ] قال تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

                                                                                                                                                                                              فإقامة الصلوات المفروضات على وجهها يوجب مباعدة الذنوب . ويوجب - أيضا - إنقاءها وتطهيرها، فإن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، وقد تقدم الحديث في ذلك . ويوجب - أيضا - تبريد الحريق الذي تكسبه الذنوب وإطفاءه .

                                                                                                                                                                                              وخرج الطبراني من حديث ابن مسعود - مرفوعا: "تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها" .

                                                                                                                                                                                              وقد روي موقوفا، وهو أشبه .

                                                                                                                                                                                              وخرج - أيضا - من حديث أنس - مرفوعا: "إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها" .

                                                                                                                                                                                              وخرج الإسماعيلي من حديث عمر بن الخطاب - مرفوعا: "يحرقون، فإذا صلوا الصبح غسلت الصلاة ما كان قبلها" حتى ذكر الصلوات الخمس . ولما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، وكان المصلي يناجي ربه، وربه يقربه منه، لم يصلح للدخول في الصلاة إلا من كان طاهرا في ظاهره وباطنه، ولذلك شرع للمصلي أن يتطهر بالماء، فيكفر ذنوبه بالوضوء، ثم [ ص: 559 ] يمشي إلى المساجد فيكفر ذنوبه بالمشي، فإن بقي من ذنوبه شيء كفرته الصلاة .

                                                                                                                                                                                              قال سلمان الفارسي : الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك، والصلاة تكفر أكثر من ذلك .

                                                                                                                                                                                              خرجه محمد بن نصر المروزي وغيره .

                                                                                                                                                                                              فإذا قام المصلي بين يدي ربه في الصلاة وشرع في مناجاته له، شرع أول ما يناجي ربه أن يسأل ربه أن يباعد بينه وبين ما يوجب له البعد من ربه . وهو الذنوب، وأن يطهره منها، ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة، فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها من المعرفة والأنس والمحبة والخشية، فتصير صلاته ناهية له عن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاة النافعة .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" لما كان العبد مأمورا بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره أن يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة، قال الله عز وجل: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية ، فدعاه [ ص: 560 ] فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: "بل للناس عامة" .

                                                                                                                                                                                              وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصية في قوله عز وجل: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

                                                                                                                                                                                              فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق، وكظم الغيظ . والعفو عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل الندى واحتمال الأذى، وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ، ثم وصفهم بأنهم: إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا عليها . فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش وصغائر وهي ظلم النفس، لكنهم لا يصرون عليها، بل يذكرون الله عقب وقوعها، ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، والتوبة: هي ترك الإصرار .

                                                                                                                                                                                              ومعنى قوله: ذكروا الله أي: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه، وما توعد به على المعصية من العقاب، فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار، وقال الله عز وجل: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ ص: 561 ] وفي "الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أذنب عبد ذنبا، فقال: رب إنى عملت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر - إلى أن قال في الرابعة -: فليعمل ما شاء" . يعني: ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبا استغفر منه .

                                                                                                                                                                                              وفي الترمذي من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" .

                                                                                                                                                                                              وخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أحدنا يذنب، قال: "يكتب عليه "، قال: ثم يستغفر منه، قال: "يغفر له، ويتاب عليه "، قال: فيعود فيذنب، قال: "يكتب عليه " قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: "يغفر له، ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا" .

                                                                                                                                                                                              وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رجل مقراف للذنوب، قال: "فتب إلى الله - عز وجل "، قال: أتوب، ثم أعود، قال: "فكلما أذنبت، فتب "، قال: يا رسول الله إذا تكثر ذنوبي، قال: "فعفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث " . وخرجه بمعناه من حديث أنس مرفوعا بإسناد ضعيف . [ ص: 562 ] وبإسناده عن عبد الله بن عمرو ، قال: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، واستغفر الله، لم يحبسها شيء حتى يمحاها .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا بإسناد عن علي، قال: خياركم كل مفتن تواب . قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور .

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .

                                                                                                                                                                                              وقيل للحسن : ألا يستحيي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟ فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار .

                                                                                                                                                                                              وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين، يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب، وقد روي "المؤمن مفتن تواب" .

                                                                                                                                                                                              وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف، مرفوعا: "المؤمن واه راقع، فسعيد من هلك على رقعه " .

                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: من أحسن منكم، فليحمد الله . ومن أساء، فليستغفر الله، فإنه لا بد لأقوام من أن يعملوا أعمالا وظفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: أيها الناس من ألم بذنب، فليستغفر الله وليتب، فإن عاد، فليستغفر الله وليتب، فإن عاد، [ ص: 563 ] فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال . وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها .

                                                                                                                                                                                              ومعنى هذا: أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كتب على ابن آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة" ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب، بالتوبة والاستغفار، فإن فعل، فقد تخلص من شر الذنوب، وإن أصر على الذنوب، هلك . وفي "المسند" من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذي يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " .

                                                                                                                                                                                              وفسر أقماع القول: بمن كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج من الأخرى ولم ينتفع بشيء مما سمع .

                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" قد يراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة . وقد ورد ذلك صريحا في حديث مرسل، خرجه ابن أبي الدنيا من "مراسيل محمد بن جبير " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "يا معاذ، اتق الله ما استطعت، واعمل بقوتك لله عز وجل ما أطقت، واذكر الله عز وجل عند كل شجرة وحجر، وإن أحدثت ذنبا، فأحدث عنده توبة، إن سرا فسر وإن علانية فعلانية" وخرجه أبو نعيم بمعناه من وجه آخر ضعيف عن معاذ . [ ص: 564 ] وقال قتادة : قال سلمان : إذا أسأت سيئة في سريرة، فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية، لكي تكون هذه بهذه، وهذا يحتمل أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعم منها . عز وجل

                                                                                                                                                                                              وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن من تاب من ذنبه، فإنه يغفر له ذنبه أو يتاب عليه في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وقوله: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم وقوله: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما وقوله: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقوله: إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا وقوله: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

                                                                                                                                                                                              قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت، عن أنس ، قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم الآية، بكى .

                                                                                                                                                                                              ويروى عن ابن مسعود ، قال: هذه الآية خير لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها . وقال ابن سيرين : أعطانا الله - عز وجل - هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم . [ ص: 565 ] وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة، وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل قال تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما

                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس في قوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج قال: هو سعة الإسلام، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية