الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم هاهنا حصل الاجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده وأيهما أصلح لها ، فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه عينوا الأم ، وهو الصحيح دليلا ، وأحمد رحمه الله في المشهور عنه ، واختيار عامة أصحابه عينوا الأب .

قال من رجح الأم : قد جرت العادة بأن الأب يتصرف في المعاش ، [ ص: 423 ] والخروج ، ولقاء الناس ، والأم في خدرها ، مقصورة في بيتها ، فالبنت عندها أصون وأحفظ بلا شك ، وعينها عليها دائما بخلاف الأب ، فإنه في غالب الأوقات غائب عن البنت ، أو في مظنة ذلك ، فجعلها عند أمها أصون لها وأحفظ .

قالوا : وكل مفسدة يعرض وجودها عند الأم فإنها تعرض أو أكثر منها عند الأب ، فإنه إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها ، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها وأصون لها من الأجنبية .

قالوا : وأيضا فهي محتاجة إلى تعلم ما يصلح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت ، وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال ، فهي أحوج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة ، وفي دفعها إلى أبيها تعطيل هذه المصلحة ، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تعلمها ذلك ، وترديدها بين الأم وبينه ، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج ، فمصلحة البنت والأم والأب أن تكون عند أمها ، وهذا القول هو الذي لا نختار سواه .

قال من رجح الأب : الرجال أغير على البنات من النساء ، فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا ، وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ، ويحملها على ذلك ضعف عقلها ، وسرعة انخداعها ، وضعف داعي الغيرة في طبعها ، بخلاف الأب ؛ ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها ، ولم يجعل لأمها ولاية على بضعها البتة ، ولا على مالها ، فكان من محاسن الشريعة أن تكون عند أمها ما دامت محتاجة إلى الحضانة والتربية ، فإذا بلغت حدا تشتهى فيه وتصلح للرجال ، فمن محاسن الشريعة أن تكون عند من هو أغير عليها ، وأحرص على مصلحتها ، وأصون لها من الأم .

قالوا : ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغيرة ، ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يريبه لشدة الغيرة ، ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضد ذلك ، قالوا : فهذا هو [ ص: 424 ] الغالب على النوعين ، ولا عبرة بما خرج عن الغالب ، على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نراعي صيانته وحفظه للطفل ؛ ولهذا قال مالك والليث : إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين ، أو كانت غير مرضية ، فللأب أخذ البنت منها ، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه ، فإنه يعتبر قدرته على الحفظ والصيانة . فإن كان مهملا لذلك ، أو عاجزا عنه ، أو غير مرضي ، أو ذا دياثة ، والأم بخلافه - فهي أحق بالبنت بلا ريب ، فمن قدمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه ، فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد ، ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه ، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة ، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب ، فإذا اختار من يساعده على ذلك ، لم يلتفت إلى اختياره ، وكان عند من هو أنفع له وأخير ، ولا تحتمل الشريعة غير هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم على تركها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) ، والله تعالى يقول : ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم 6 ] . وقال الحسن : علموهم وأدبوهم وفقهوهم ، فإذا كانت الأم تتركه في المكتب ، وتعلمه القرآن، والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه ، وأبوه يمكنه من ذلك ، فإنه أحق به بلا تخيير ولا قرعة ، وكذلك العكس ، ومتى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله ، والآخر مراع له فهو أحق وأولى به .

وسمعت شيخنا رحمه الله يقول : تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام ، فخيره بينهما ، فاختار أباه ، فقالت له أمه : سله لأي شيء يختار أباه ، فسأله فقال : أمي تبعثني كل يوم للكتاب ، والفقيه يضربني ، وأبي يتركني للعب مع الصبيان ، فقضى به للأم ، قال : أنت أحق به .

قال شيخنا : وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي ، وأمره الذي أوجبه الله [ ص: 425 ] عليه ، فهو عاص ، ولا ولاية له عليه ، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته ، فلا ولاية له ، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب ، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب ؛ إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان . قال شيخنا : وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء ، سواء كان الوارث فاسقا أو صالحا ، بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به ، وفعله بحسب الإمكان . قال : فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة ، فالحضانة هنا للأم قطعا ، قال : ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقا ، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا ، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا ، بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية