الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد ذكر الله تعالى بعضا مما كانوا يعتذرون به فقال تعالت كلماته: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

                                                          كان المنافقون يتعللون بكل علة صادقة أو كاذبة، بل إنهم لم يتعللوا بصادق، بل كلها تعلات يقولونها بأفواههم، وقلوبهم غير مطمئنة إلى الخروج; لأنهم يريدون التعويق، وهول القتال قد أفزعهم، وبعد الشقة قد أقعدهم، وكان من تعلتهم أن قالوا: إننا نخشى فتنة النساء في الرومان لجمال نسائهم.

                                                          روي أن الجد بن قيس أخا بني سلمة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك في جلاد بني الأصفر، فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجلا أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن! فأعرض عنه رسول الله وقال: "قد أذنت لك".

                                                          ومعنى هذا أن الآية جاءت تمثل ضروب معاذيرهم الواهية التي لا تقنع، إنما هو عدم الإيمان، وفزع النفاق.

                                                          والزمخشري يفسر الآية على العموم، ويفسر "لا تفتني" أي: لا تأذن لي في الخروج فأقع في الفتنة التي لا قبل لي بها وهي [ ص: 3325 ] عصيانك، فيبين الله أن هذا الاعتذار التافه الذي لا يدل إلا على عجز حقيقي هو الفتنة في ذاته، ولذا قال تعالى: ألا في الفتنة سقطوا أي في الفتنة الكبيرة سقطوا، والفتنة أطلقت، والمطلق ينصرف إلى الفرد الأعظم، أي الفتنة الكبرى سقطوا فيها، وقدم المفعول وهو الفتنة على الفعل للإشارة إلى أن عملهم مقصور على الفتنة، فهو الفتنة، ولا يكون غيرها; لأن عذرهم كاذب ساقط في ذات نفسه.

                                                          وعلى أن الآية نزلت فيمن اعتذروا بفتنة نساء بني الأصفر تكون فتنة التخلف مشاكلة لما ادعوه من فتنة النساء في اللفظ وإن كانت غيرها.

                                                          وإنهم بهذا الكذب والاعتذارات الواهية وعدم إيمانهم يعدون كافرين، ولذا قال تعالى: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي أنهم مؤكدون داخلون فيها، وستحيط بهم يوم القيامة، وذكرت الآن لتأكد وقوعها، كقوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه فهو تأكيد لما سيقع بتصويره كأنه واقع وقوعا مؤكدا.

                                                          وقد أكد سبحانه وتعالى الوقوع في جهنم يوم القيامة بعدة مؤكدات:

                                                          أولها: الجملة الاسمية، ثانيها (إن) الدالة على توكيد الخبر، وثالثها بيان أنها محيطة بهم إحاطة الدائرة بقطرها لا يخرجون عما تحيط به، ورابعها باللام المؤكدة في قوله تعالى: (لمحيطة).

                                                          وأظهر سبحانه في موضع الإضمار فلم يقل: "لمحيطة بهم" بل قال لمحيطة بالكافرين لبيان سبب هذا العذاب الأليم وهو الكفر، وقانا الله تعالى شر النفاق وأهله.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية