الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثامن والعشرون في غزوة حنين

                                                                                                                                                                                                                              [وتسمى أيضا غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال محمد بن عمر الأسلمي : حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه : أقامت هوازن سنة تجمع الجموع وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم -] انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال أئمة المغازي : لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة مشت أشراف هوازن ، وثقيف بعضها إلى بعض ، وأشفقوا أن يغزوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا ، والرأي أن نغزوه ، فحشدوا وبغوا وقالوا : والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فأجمعوا أمركم ، فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فأجمعت هوازن أمرها ، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النصري بالصاد المهملة - وأسلم بعد ذلك ، وهو - يوم حنين - ابن ثلاثين سنة ، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل . قال محمد بن عمر : لا يبلغون مائة ، ولم يشهدها من قيس عيلان - أي بالعين المهملة - إلا هؤلاء ، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب ، مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال : والله لو ناوأوا محمدا من بين المشرق والمغرب لظهر عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              وكان في جشم دريد بن الصمة وهو يومئذ ابن ستين ومائة . ويقال عشرين ومائة سنة ، وهو شيخ كبير قد عمي ، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شيخا مجربا قد ذكر بالشجاعة والفروسية وله عشرون سنة ، فلما عزمت هوازن على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألت دريدا الرياسة عليها فقال : وما ذاك وقد عمي بصري وما استمسك على ظهر الفرس ، ولكن أحضر معكم لأن أشير عليكم برأيي على أن لا أخالف ، فإن كنتم تظنون أني أخالف أقمت ولم أخرج قالوا : لا نخالفك ، وجاءه مالك بن عوف ، وكان جماع أمر الناس إليه ، فقالوا له : لا نخالفك في أمر تراه .

                                                                                                                                                                                                                              فقال له دريد : يا مالك إنك تقاتل رجلا كريما ، قد أوطأ العرب ، وخافته العجم ومن بالشام ، وأجلى يهود الحجاز ، إما قتلا وإما خروجا على ذل وصغار ، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا له ما بعده .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : إني لأطمع أن ترى غدا ما يسرك .

                                                                                                                                                                                                                              قال دريد : منزلي حيث ترى ، فإذا جمعت الناس صرت إليك ، فلما خرج من عنده طوى عنه أن يسير بالظعن والأموال مع الناس . [ ص: 311 ]

                                                                                                                                                                                                                              فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس فخرجوا معهم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم ثم انتهى إلى أوطاس ، فعسكر به ، وجعلت الأمداد تأتي من كل جهة ، وأقبل دريد بن الصمة في شجار له يقاد به من الكبر ، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده وقال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس .

                                                                                                                                                                                                                              ما لي أسمع بكاء الصغير ، ورغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبعار الشاء وخوار البقر ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم فقال دريد : قد شرط لي ألا يخالفني فقد خالفني فأنا أرجع إلى أهلي وتارك ما هنا . قيل : أفتلقى مالكا فتكلمه ؟ فدعي له مالك ، فقال : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام . ما لي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهاق الحمير وبعار الشاء وخوار البقر ؟ ! قال : قد سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، قال : ولم قال : أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم ، فأنقض به دريد وقال : راعي ضأن والله ، ما له وللحرب . وصفق دريد بإحدى يديه على الأخرى تعجبا وقال : هل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة ، بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، فارفع الأموال والنساء والذراري إلى عليا قومهم ، وممتنع بلادهم ، ثم الق القوم على متون الخيل والرجال بين أصفاف الخيل أو متقدمة درية أمام الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك ذلك ، وقد أحرزت أهلك ومالك . فقال مالك بن عوف : والله لا أفعل ولا أغير أمرا صنعته ، إنك قد كبرت وكبر علمك ، أو قال عقلك . وجعل يضحك مما يشير به دريد ، فغضب دريد وقال : هذا أيضا يا معشر هوازن ، والله ما هذا لكم برأي ، إن هذا فاضحكم في عورتكم ، وممكن منكم عدوكم ولاحق بحصن ثقيف وتارككم ، فانصرفوا واتركوه ، فسل مالك سيفه ثم نكسه ، ثم قال : يا معشر هوازن!! والله لتطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري - وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي - فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا : والله - لئن عصينا مالكا ليقتلن نفسه وهو شاب ، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه ، فأجمعوا رأيكم مع مالك ، فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال :


                                                                                                                                                                                                                              يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع     أقود وطفاء الزمع
                                                                                                                                                                                                                              كأنها شاة صدع

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن هشام : أنشدني غير واحد من أهل العلم :

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال دريد : ليتني فيها جذع يا معشر هوازن ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : ما [ ص: 312 ]

                                                                                                                                                                                                                              شهدها منهم أحد . قال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم علاء ورفعة ، وفي لفظ : لو كان ذكرا وشرفا ما تخلفوا عنه ، يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء ، فأبوا عليه ، قال : فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر وعوف بن عامر ، قال : ذانك الجذعان من بني عامر لا ينفعان ولا يضران ، قال مالك لدريد : هل من رأي غير هذا فيما قد حضر من أمر القوم ؟ قال دريد : نعم تجعل كمينا ، يكونون لك عونا ، إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم ، وكررت أنت بمن معك ، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد ، فذلك حين أمر مالك أصحابه أن يكونوا كمينا في الشعاب وبطون الأودية ، فحملوا الحملة الأولى التي انهزم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال دريد - من مقدمة أصحاب محمد ؟ قالوا : بني سليم ، قال : هذه عادة لهم غير مستنكرة ، فليت بعيري ينحى من سنن خيلهم ، فنحي ، بعيره موليا من حيث جاء .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية