الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 389 ] باب الأمان .

                                                                                                                          يصح أمان المسلم المكلف ، ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا ، مطلقا ، أو أسيرا . وفي أمان الصبي المميز روايتان ويصح أمان الإمام لجميع المشركين ، وأمان الأمير لمن جعل بإزائه ، وأمان أحد الرعية للواحد والعشرة ، والقافلة . ومن قال لكافر : أنت آمن ، أو : لا بأس عليك ، أو : أجرتك ، أو : قف ، أو : ألق سلاحك ، أو مترس ، فقد أمنه ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه ، فأنكره فالقول قوله ، وعنه : قول الأسير ، وعنه : قول من يدل الحال على صدقه . ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ، ففتحه واشتبه علينا ، حرم قتلهم واسترقاقهم . وقال أبو بكر : يخرج واحد بالقرعة ، ويسترق الباقون . .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب الأمان .

                                                                                                                          الأمان ضد الخوف ، وهو مصدر : أمن أمنا ، وأمانا ، والأصل فيه قوله تعالى : فأجره حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] . وقوله - عليه السلام - ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم متفق عليه من حديث علي ، وإذا أعطوا الأمان حرم قتلهم وأخذ مالهم والتعرض إليهم .

                                                                                                                          ( يصح أمان المسلم المكلف ) أي : البالغ العاقل فلا يصح من كافر ، وإن كان ذميا للخبر ، ولأنه متهم على الإسلام وأهله ، فلم يصح منه كالحربي ، ولا من طفل ، ومجنون ؛ لأن كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم ، ومن زال عقله بنوم أو سكر أو إغماء هو كالمجنون ؛ لأنه لا يعرف المصلحة من غيرها ( ذكرا كان أو أنثى ) نص عليه ، ولقوله - عليه السلام - قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ . رواه البخاري ، وأجارت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا العاص بن الربيع فأجاره النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حرا ) اتفاقا ( أو عبدا ) في قول أكثر العلماء لقول عمر : العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه . رواه سعيد ، ولقوله - عليه السلام - يسعى بها أدناهم فإن كان كذلك فصح أمانه بالحديث ، وإن كان غيره أدنى منه ، فيصح من باب أولى ، ولأنه مسلم مكلف ، فصح منه كالحر ( مطلقا ) سواء كان مأذونا له في القتال أو لا ( أو أسيرا ) نص على ذلك ، وللعموم ، وبعضهم شرط فيه أن يكون مختارا ، ولا حاجة إليه ؛ لأن المسلم الحر المطلق لو أكره على الأمان ، لم يصح ، فلا حاجة لاختصاص الأسير به .

                                                                                                                          ( وفي أمان الصبي المميز روايتان ) ؛ إحداهما : لا يصح ، لعدم تكليفه ، [ ص: 390 ] كالمجنون ، والثانية : تصح ، وهي المذهب قال أبو بكر : رواية واحدة ، وحمل الأول على غير المميز لعموم الخبر ، ولأنه عاقل ، فصح منه كالبالغ ، بخلاف المجنون . وظاهره أنه يصح منجزا ، ومعلقا بشرط ، ومن شرط صحته أن يكون مختارا . ولم يصرح به للعلم به ، وعدم الضرر علينا ، وأن لا تزيد مدته على عشر سنين ، قاله في " الترغيب " وفي جواز إقامتهم بدارنا هذه المدة بلا جزية وجهان . وشرط في " عيون المسائل " لصحته معرفة المصلحة فيه ، وذكر جماعة الإجماع في المرأة بدون هذا الشرط ( ويصح أمان الإمام لجميع المشركين ) لأن ولايته عامة ( وأمان الأمير لمن جعل بإزائه ) أي : بحذائه ؛ لأن له الولاية عليهم فقط . فدل على أنه كآحاد المسلمين في حق غيرهم ( وأمان أحد الرعية ) قال : الجوهري الرعية : العامة . ( للواحد والعشرة والقافلة ) كذا ذكره معظمهم ، لعموم الخبر ؛ فقيل : لقافلة صغيرة ، وحصن صغير ، وجزم به في " الشرح " ؛ لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن ، فعلى هذا لا يصح لأهل بلدة كبيرة ، ولا رستاق وجمع كبير ، لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد ، والافتئات على الإمام ، وأطلق في " الروضة " كحصن أو بلد ، وأنه يستحب أن لا يجار على الأمير إلا بإذنه ، وقيل : لمائة .

                                                                                                                          فرع : يصح أمان غير الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه ، فيعصمه من القتل ، نص عليه ، لقصة زينب في أمانها لزوجها ، وقال القاضي في " المحرر " : لا يصح إلا من الإمام ؛ لأن أمر الأسير إليه ، فلا يجوز الافتئات عليه .

                                                                                                                          ( ومن قال لكافر : أنت آمن ) فقد أمنه ، لقوله - عليه السلام - يوم فتح مكة : [ ص: 391 ] من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كقوله : لا خوف عليك ولا تذهل . وكما لو أمن يده أو بعضه . ( أو : لا بأس عليك ) لأن عمر لما قال للهرمزان : لا بأس عليك ، قالت له الصحابة : قد أمنته ، لا سبيل لك عليه . رواه سعيد . ( أو : أجرتك ) لقوله - عليه السلام - قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ( أو : قف ) كقم ( أو ألق سلاحك ) لأن الكافر يعتقده أمانا أشبه ما لو سلم عليه . ( أو مترس ) ومعناه : لا تخف ، وهو بفتح الميم ، والتاء ، وسكون الراء ، وآخره سين مهملة ، ويجوز سكون التاء ، وفتح الراء ، وهي كلمة أعجمية . ( فقد أمنه ) لقول ابن مسعود : إن الله يعلم كل لسان فمن كان منكم أعجميا فقال : ( مترس ) فقد أمنه . والإشارة كالقول قال عمر : لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقتله ، لقتلته . رواه سعيد ، وقال أحمد : إذا أشير إليه بشيء غير الأمان ، فظنه أمانا ، فهو أمان ، وكل شيء يرى العلج أنه أمان ، فهو أمان ، وقال : إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله ؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمنه .

                                                                                                                          فإن قلت : كيف يصح الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق ، بخلاف البيع والطلاق ؛ .

                                                                                                                          قلت : تغليبا لحقن الدم ، مع أن الحاجة داعية إلى الإشارة ؛ لأن الغالب فيهم عدم فهم كلام المسلمين كالعكس . وشرط انعقاد الأمان أن لا يرده الكافر ؛ لأنه إيجاب حق فلم يصح مع الرد كالبيع . وإن قتله ، ثم رده ، انتقص ؛ لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق .

                                                                                                                          فرع : يقبل قول عدل : إني أمنته في الأصح كإخبارهما أنهما أمناه [ ص: 392 ] لأنهما غير متهمين كالمرضعة على فعلها ، وإذا أمنه سرى إلى ما معه من أهل ومال إلا أن يقول : أمنتك نفسك فقط .

                                                                                                                          ( ومن جاء بمشرك : فادعى أنه أمنه ، فأنكره ، فالقول قوله ) أي : قول المنكر المسلم . هذا هو المجزوم به ؛ لأن الأصل إباحة دم الحربي ، وعدم الأمان ( وعنه : قول الأسير ) ، اختاره أبو بكر ؛ لأن صدقه محتمل فيكون قوله شبهة في حقن دمه ( وعنه : قول من يدل الحال على صدقه ) لأن ظاهر الحال قرينة تدل على الصدق ، فعلى هذا إن كان الكافر ذا قوة ، ومعه سلاحه ، فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه ، فالظاهر كذبه ؛ فلا يلتفت إليه ؛ لأنه قد تنازع الحكم أصلان أحدهما : مخالفة الأصل للدعوى الموجبة ، والثاني : احتمال الصدق في الدعوى المانعة ، فوجب الترجيح بالقرينة قال في " الفروع " : ويتوجه مثله أعلاج استقبلوا سرية دخلت بلد الروم ، فقالوا : جئنا مستأمنين ، قال في رواية أبي داود : إن استدل عليهم بشيء . قلت : إن هم وقفوا فلم يبرحوا ولم يجردوا سلاحا ؛ فرأى لهم الأمان .

                                                                                                                          فرع : إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله ، ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ، ثم يرد إلى مأمنه بغير خلاف نعلمه ، للنص ، قال الأوزاعي : هي إلى يوم القيامة .

                                                                                                                          ( ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه ) أو أسلم واحد منهم ( واشتبه علينا حرم قتلهم ) ، نص عليه ؛ لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه ، واشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه ، فوجب تغليب التحريم ، كما لو اشتبه زان محصن بمعصومين [ ص: 393 ] ( واسترقاقهم ) لأن استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم ، وعلم منه أن المسلمين إذا حاصروا حصنا فطلب واحد منهم الأمان ليفتحه لهم ، جاز أن يعطوه أمانا ، لقول الأشعث بن قيس ( وقال أبو بكر ) وصاحب " التبصرة " ( يخرج واحد بالقرعة ) لأن الحق واحد منهم غير معين ، ويخرج صاحب الأمان بها . ( ويسترق الباقون ) كما لو أعتق عبدا من عبيده ، ثم أشكل ، بخلاف القتل ، فإنه يدرأ بها لشبهة . قال في " الفروع " : ويتوجه مثله لو نسي أو اشتبه من لزمه قود ، فلا قود . وفي الدية بقرعة الخلاف .




                                                                                                                          الخدمات العلمية