الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثالث : في المستثنيات من أجناسها .

                                                                                                                وتقدم قبل ذلك قاعدة ، وهي أن كل مأمور يشق على العباد فعله سقط الأمر به ، وكل منهي شق عليهم اجتنابه سقط النهي عنه .

                                                                                                                والمشاق ثلاثة أقسام : مشقة في المرتبة العليا ، فيعفى عنها إجماعا كما لو كانت طهارة الحدث ، أو الخبث تذهب النفس ، أو الأعضاء .

                                                                                                                ومشقة في المرتبة الدنيا ، فلا يعفى عنها إجماعا كطهارة الحدث والخبث بالماء البارد في الشتاء .

                                                                                                                ومشقة مترددة بين المرتبتين ، فمختلف في إلحاقها بالمرتبة العليا ، فتؤثر في [ ص: 197 ] الإسقاط ، أو بالمرتبة الدنيا فلا تؤثر ، وعلى هذه القاعدة يتخرج الخلاف في فروع هذا الفصل نظرا إلى أن هذه النجاسة هل يشق اجتنابها أم لا .

                                                                                                                وفي هذا الفصل تسع عشرة صورة .

                                                                                                                الصورة الأولى : قال في الكتاب : إذا رأى في ثوبه يسيرا من الدم ، وهو في الصلاة مضى على صلاته كان دم حيض ، أو غيره ، وإن نزعه فلا بأس .

                                                                                                                من الطراز : قال ابن حبيب : وإن رآه قبل الدخول في الصلاة نزعه ، وإنما الرخصة في الصلاة ، أو بعدها ، وهذا خلاف ظاهر المذهب ، وقال صاحب الغرائب إن صلى به عامدا أعاد بخلاف الساهي ، والعلة في العفو عنه تكرره لا خفاؤه .

                                                                                                                واختلف في اليسير قال مالك رحمه الله : قدر الدرهم قال ابن عبد الحكم : قدر المخرج لأنه معفو عنه ، وأنكر مالك - رحمه الله - في العتبية التحديد ، وقال أبو طاهر : الخنصر يسير ، والخلاف فيما فوقه إلى الدرهم .

                                                                                                                من الطراز : سوى مالك - رحمه الله - بين الدماء في العفو في المدونة ، وألحق في المبسوط دم الحيض بالبول ، وإذا قلنا بالعفو عنه فظاهر المذهب التسوية بين إضافته للحائض ، أو لغيرها .

                                                                                                                وقال اللخمي : يختلف في الدم اليسير يكون في ثوب الغير ، ثم يلبسه الإنسان لإمكان الانفكاك عنه .

                                                                                                                وإذا قلنا لا يعفى عن دم الحيض ، فدم الميتة مثله عند ابن وهب ، ويعفى عنه عند أبي حبيب كدم المذكاة استصحابا لحكمة قبل الموت ، وإذا قلنا يعفى عن يسير دم الميتة ، فهل يعفى عن يسير دم الخنزير على ظاهر التسوية بين الدماء في الكتاب ، أو بفرق بينه وبين دم الميتة بأنه كان معفوا عنه في حالة الحياة ، ومباح الأكل إذا لم يسفح ، وبين دم الحيض بأنه دم إنسان ، والإنسان لا يتميز عن دمه .

                                                                                                                [ ص: 198 ] وإذا قلنا يعفى عن دم الخنزير ، والميتة ، فهل يعفى عن اليسير من لحم الميتة لأنه على حكم الدم ، أو لا يعفى عنه ، وهو الظاهر لإمكان الاحتراز منه .

                                                                                                                الصورة الثانية من البيان : سئل مالك - رحمه الله - عما ينسجه النصارى ، ويسقونه بالخبز المبلول ، ويحركونه بأيديهم ، وهم أهل نجاسة قال : لا بأس بذلك ، ولم يزل الناس يلبسونها قديما . قال ابن رشد : ولا فرق في القياس بين منسوجهم وملبوسهم في الانتفاع .

                                                                                                                الصورة الثالثة من التبصرة : قال مالك رحمه الله : إذا وقعت قطرة من بول أو خمر في طعام أو دهن لا ينجس إلا أن يكون قليلا ، وقاله ابن نافع في حباب الزيت تقع فيها الفأرة .

                                                                                                                وأمكن أن يقال : إن هذا له أصل في الشرع يرجع إليه ، فلا يكون رخصة ، وهو أن القاعدة المجمع عليها إذا تعارضت المفسدة المرجوحة ، والمصلحة الراجحة اغتفرت المفسدة في جنب المصلحة كقطع اليد المتآكلة لبقاء النفس ، ونظائر ذلك كثير في الشرع .

                                                                                                                والنقطة النجسة مشتملة على المفسدة ، وكل نقطة من المائع مشتملة على مصلحة ، فنقطة معارضة بنقطة ، وبقية المائع سالم من المعارض ، فيكون المائع طاهرا .

                                                                                                                فإن قيل يشكل ذلك بالقليل من المائع .

                                                                                                                قلنا : الجواب من وجهين ، الأول : أن أعظم المفسدة في إراقة المائع الكثير أتم . الثاني : أن هذه المفسدة يندر وجودها ، فغلبت في القليل طلبا للاحتياط .

                                                                                                                الصورة الرابعة : قال في الكتاب : لا بأس بطين المطر ، وماء المطر المنتقع ، وفيه العذرة ، والبول ، والروث ، وما زالت الطرق كذلك ، وهم يصلون به . قال الشيخ أبو محمد : ما لم تكن النجاسة غالبة ، أو عينا قائمة . قال أبو طاهر : ولو كانت كذلك ، وافتقر إلى المشي فيه لم يجب غسله كثوب المرضعة .

                                                                                                                [ ص: 199 ] الصورة الخامسة في الجواهر : الجرح بمصل الدم ، وغيره يعفى عنه ما لم يتفاحش .

                                                                                                                الصورة السادسة : الدمل يسيل يعفى عنه ما لم يتفاحش .

                                                                                                                الصورة السابعة : قال : ثوب المرضع يعفى عن بول الصبي فيه ما لم يتفاحش قال في الكتاب : وأستحب لها ثوبا آخر لصلاتها .

                                                                                                                الصورة الثامنة : قال : الأحداث تستنكح ويكثر قطرها وإصابتها الثوب فيعفى عنها ما لم يتفاحش .

                                                                                                                فرع : إذا عفي عن الأحداث في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره لسقوط اعتبارها شرعيا ، وقيل : لا يعفى عنها في حق غيره لأن سبب العفو الضرورة ، ولم يوجد في حق الغير ، وفائدة الخلاف صلاة صاحبها بغيره إماما .

                                                                                                                الصورة التاسعة : قال : بول الخيل بالنسبة إلى الغازي في أرض الحرب ، وقيل مطلقا يعفى عنه ما لم يتفاحش .

                                                                                                                الصورة العاشرة : قال : دم على السيف ، أو المدية الصقيلين يعفى عن أثره دون عينه .

                                                                                                                الصورة الحادية عشرة : الخف يمشى به على أبوال الدواب ، وأرواثها يكفي فيه المسح ، وقيل الغسل .

                                                                                                                فروع : الأول من الطراز : قال سحنون : مسح الخف بالأمصار والمواضع التي تكثر فيها الدواب ، وما لا تكثر فيه الدواب لا يعفى عنه .

                                                                                                                الثاني : من الطراز : حد المسح أن لا يخرج المسح شيئا مثل الاستجمار في خروج الحجر نقيا ، وقال أبو ثور : يشترط انقطاع الريح ، وليس شرطا كما في الاستنجاء .

                                                                                                                الثالث منه أيضا : قال ابن القاسم في النوادر : يغسل الخف من بول الكلب ، ولا يمسح ، ويشبه أن يلحق به الدجاج المخلاة لندرتها في الطرقات .

                                                                                                                [ ص: 200 ] الرابع منه : لو مشى بخفه على نجاسة ، ولا ماء معه ، فليخلعه ، ويتيمم لأن التيمم بدل من الوضوء ، والنجاسة لا بدل لها .

                                                                                                                الصورة الثانية عشرة : في الجواهر : النعل إذا مشى به على أرواث الدواب وأبوالها ، دلكه وصلى لما في أبي داود عنه عليه السلام أنه قال : إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى كان التراب له طهورا . وفي رواية : إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه ، فطهورها التراب . وقال ابن حبيب : لا يجزيه لخفة النزع بخلاف الخف .

                                                                                                                الثالثة عشرة : قال : بول من لم يأكل الطعام يغسل على المذهب ، وقيل يستثنى ، وقيل الذكر فقط ، وقد تقدم تقريره .

                                                                                                                الرابعة عشرة : قال : إذا مشى برجله على نجاسة هل يجب غسلها لخفته ، أو يلحق بالنعل لتكرر ذلك ، والتفرقة للقاضي أبي بكر بن العربي ثلاثة أقوال .

                                                                                                                الخامسة عشرة : المرأة لما كانت مأمورة بإطالة ذيلها للستر جعل الشرع ما بعده طهورا له ; لما في الموطأ عن عبد الرحمن بن عوف عن امرأة أنها قالت لأم سلمة إني امرأة أطيل ذيلي ، وأمشي في المكان القذر ، فقالت : قال لها النبي عليه السلام : يطهره ما بعده .

                                                                                                                وقيل : هذا حديث مجهول لأنه عن امرأة لا تعرف حالها ، وحمله مالك - رحمه الله - عليه في الكتاب على القشب اليابس .

                                                                                                                والقشب بسكون الشين المعجمة هو الرجيع اليابس ، وأصله الخلط بما يفسد ، وقشب الشيء إذا خلطه بما يفسد ، وهو رجيع مخلوط بغيره .

                                                                                                                وقال التونسي : الأشبه أن ذلك مما لا تنفك عنه الطرق من أرواث الدواب وأبوالها ، وإن كانت رطبة كما قال مالك في الخف ، وهذا تخريج حسن بجامع المشقة ، وهي في الثواب أعظم لأن كل أحد يمكنه نزع خفه ليجف بعد الغسل ، وليس كل أحد يجد ثوبا غير ثوبه حتى ينزعه .

                                                                                                                [ ص: 201 ] وفي أبي داود في امرأة من بني عبد الأشهل قالت : قلت يا رسول الله : إن لنا طريقا إلى المسجد مبنية فكيف نفعل إذا مطرنا فقال عليه السلام : أليس بعدها طريق أطيب منها ؟ قالت : بلى ، قال : فهذه بهذه .

                                                                                                                فقيل : يطهر الخف ما بعده رطبا أو يابسا لهذه الأحاديث ، والمذهب الأول ، وهو مذهب الكتاب ، وخرج الأصحاب عليه : من مشى برجله مبلولة على نجاسة ، ثم على موضع جاف .

                                                                                                                السادسة عشرة : قال : ودم الفم يمجه بالريق حتى يذهب لم ير طهارته بذلك في الكتاب ، وقيل : يطهر ، وقد تقدم تحريره .

                                                                                                                السابعة عشرة : قال : دم المحاجم على ما تقدم في الخلاف في إزالة النجاسة .

                                                                                                                الثامنة عشرة : من الطراز : يسير البول والعذرة يعلق بالذباب ، ثم يجلس على المحل يعفى عنه .

                                                                                                                التاسعة عشرة : في الجواهر : الأحداث على المخرجين معفو عن أثرها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية