الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان ؛ لأنه لم يمكنها من أخذ ما مضى لها من قدر الكفاية مع قولها : إنه لا يعطيها ما يكفيها ولا دليل فيها ؛ لأنها لم تدع به ولا طلبته ، وإنما استفتته : هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها ؟ فأفتاها بذلك .

وبعد ، فقد اختلف الناس في نفقة الزوجات والأقارب ، هل يسقطان بمضي الزمان كلاهما ، أو لا يسقطان ، أو تسقط نفقة الأقارب دون الزوجات ؟ على ثلاثة أقوال .

أحدها : أنهما يسقطان بمضي الزمان ، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد .

والثاني : أنهما لا يسقطان إذا كان القريب طفلا ، وهذا وجه للشافعية .

[ ص: 451 ] والثالث : تسقط نفقة القريب دون نفقة الزوجة ، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد ومالك . ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان منهم من قال : إذا كان الحاكم قد فرضها لم تسقط ، وهذا قول بعض الشافعية والحنابلة . ومنهم من قال : لا يؤثر فرض الحاكم في وجوبها شيئا إذا سقطت بمضي الزمان ، والذي ذكره أبو البركات في " محرره " الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك ، فقال : وإذا غاب مدة ولم ينفق لزمه نفقة الماضي ، وعنه : لا يلزمه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها .

وأما نفقة أقاربه فلا تلزمه لما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصواب ، وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلا وتوجيها ، أما النقل : فإنه لا يعرف عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه استقرار نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم ، ولا عن الشافعي وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم كصاحب " المهذب " و " الحاوي " و " الشامل " و " النهاية " و " التهذيب " و " البيان " و " الذخائر " ، وليس في هذه الكتب إلا السقوط بدون استثناء فرض ، وإنما يوجد استقرارها إذا فرضها الحاكم في " الوسيط " و " الوجيز " وشرح الرافعي وفروعه ، وقد صرح نصر المقدسي في " تهذيبه " والمحاملي في " العدة " ومحمد بن عثمان في " التمهيد " والبندنيجي في " المعتمد " بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم ، وعللوا السقوط بأنها تجب على وجه المواساة لإحياء النفس ، ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه ، وهذا التعليل يوجب سقوطها ، فرضت أو لم تفرض . وقال أبو [ ص: 452 ] المعالي : ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك ، وما لا يجب فيه التمليك وانتهى إلى الكفاية استحال مصيره دينا في الذمة ، واستبعد لهذا التعليل قول من يقول : إن نفقة الصغير تستقر بمضي الزمان ، وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجاب الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض ، ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح . إذا قلنا : إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة . قال : ولهذا قلنا : تتقدر ، ثم قال : هذا في الحمل والولد الصغير ، أما نفقة غيرهما فلا تصير دينا أصلا . انتهى .

وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصواب ، فإن في تصور فرض الحاكم نظرا ؛ لأنه إما أن يعتقد سقوطها بمضي الزمان أو لا ، فإن كان يعتقده لم يسغ له الحكم بخلافه ، وإلزام ما يعتقد أنه غير لازم ، وإن كان لا يعتقد سقوطها مع أنه لا يعرف به قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي . فإما أن يعني بالفرض الإيجاب ، أو إثبات الواجب ، أو تقديره أو أمرا رابعا ، فإن أريد به الإيجاب فهو تحصيل الحاصل ولا أثر لفرضه ، وكذلك إن أريد به إثبات الواجب ففرضه وعدمه سيان ، وإن أريد به تقدير الواجب فالتقدير إنما يؤثر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان لا في سقوطه ولا ثبوته ، فلا أثر لفرضه في الواجب ألبتة ، هذا مع ما في التقدير من مصادمة الأدلة التي تقدمت على أن الواجب النفقة بالمعروف فيطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس . وإن أريد به أمر رابع ، فلا بد من بيانه لينظر فيه .

فإن قيل : الأمر الرابع المراد هو عدم السقوط بمضي الزمان ، فهذا هو محل الحكم وهو الذي أثر فيه حكم الحاكم وتعلق به . قيل : فكيف يمكن أن يعتقد السقوط ثم يلزم ويقضي بخلافه ؟ وإن اعتقد عدم السقوط فخلاف الإجماع ، ومعلوم أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته ، فإذا كانت صفة هذا الواجب سقوطه بمضي الزمان شرعا لم يزله حكم الحاكم عن صفته .

فإن قيل : بقي قسم آخر وهو أن يعتقد الحاكم السقوط بمضي الزمان ما لم [ ص: 453 ] يفرض ، فإن فرضت استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان .

قيل : هذا لا يجدي شيئا ، فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان ، وإن هذا هو الحق والشرع ، لم يجز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته ، وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر وصاحب طعام غير مضطر ، فقضي به للمضطر بعوضه ، فلم يتفق أخذه حتى زال الاضطرار ، ولم يعط صاحبه العوض ، أنه يلزمه بالعوض ويلزم صاحب الطعام ببذله له ، والقريب يستحق النفقة لإحياء مهجته ، فإذا مضى زمن الوجوب حصل مقصود الشارع من إحيائه ، فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإحياء ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر .

فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بنفقة الزوجة فإنها تستقر بمضي الزمان ، ولو لم تفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه .

قيل : النقض لا بد أن يكون بمعلوم الحكم بالنص أو الإجماع ، وسقوط نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع ، فأبو حنيفة وأحمد في رواية يسقطانها ، والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يسقطانها ، والذين لا يسقطونها فرقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق .

أحدها : أن نفقة القريب صلة .

الثاني : أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار بخلاف نفقة القريب .

الثالث : أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها ، ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته .

الرابع : أن الصحابة - رضي الله عنهم - أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى ، ولا يعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى ، فصح عن عمر [ ص: 454 ] - رضي الله عنه - أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم ، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا ، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ، ولم يخالف عمر - رضي الله عنه - في ذلك منهم مخالف . قال ابن المنذر - رحمه الله - : هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها .

قال المسقطون : قد شكت هند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا سفيان لا يعطيها كفايتها ، فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية ، ولم يجوز لها أخذ ما مضى ، وقولكم : إنها نفقة معاوضة ، فالمعاوضة إنما هي بالصداق ، وإنما النفقة لكونها في حبسه فهي عانية عنده كالأسير فهي من جملة عياله ، ونفقتها مواساة ، وإلا فكل من الزوجين يحصل له من الاستمتاع مثل ما يحصل للآخر ، وقد عاوضها على المهر ، فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإلزام الزوج به ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف وكنفقة الرقيق ، فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإحياء نفس من هو في ملكه وحبسه ، ومن بينه وبينه رحم وقرابة ، فإذا استغنى عنها بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها ، وأي معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك والتضييق عليه وتعذيبه بطول الحبس ، وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها من الدخول والخروج وعشرة الأخدان بانقطاع زوجها عنها وغيبة نظره عليها كما هو الواقع ، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله ، حتى إن الفروج لتعج إلى الله من حبس حماتها ومن يصونها عنها ، وتسييبها في أوطارها ، ومعاذ الله أن يأتي شرع الله لهذا الفساد الذي قد استطار شراره واستعرت ناره ، وإنما أمر عمر بن الخطاب الأزواج إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى ، ولم يأمرهم إذا قدموا أن يفرضوا نفقة ما مضى ، ولا يعرف ذلك عن صحابي ألبتة ، ولا يلزم من الإلزام بالنفقة الماضية بعد الطلاق وانقطاعها بالكلية الإلزام بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإقامة ، واستقبل الزوجة بكل ما تحتاج إليه ، فاعتبار أحدهما بالآخر غير صحيح ، ونفقة الزوجة تجب يوما بيوم فهي كنفقة القريب ، وما مضى فقد [ ص: 455 ] استغنت عنه بمضي وقته ، فلا وجه لإلزام الزوج به ، وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين ، وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة ، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي لا تقتضي الشريعة غيره ، وقد صرح أصحاب الشافعي بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقطان بمضي الزمان إذا قيل : إنهما إمتاع لا تمليك ، فإن لهم في ذلك وجهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية