الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذ ربك منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره، وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام؛ فإن منهم من أشرك فقال: عزير ابن الله، عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه: وإذ نتقنا الجبل لقوله جل وعلا: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور في سورة البقرة، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلى ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل، وقد يقال: إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم [ ص: 100 ] وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لزام المشركين المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال؛ لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام، فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل: إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد، والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد، لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي: واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك من بني آدم المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب، وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا مما لا يكاد يلتفت إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق، فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج، والتعير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى: وإذ نتقنا ولما بعده من قوله تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا لكونه استطراديا، وقوله تعالى: من ظهورهم بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى: للذين استضعفوا لمن آمن وقيل: بدل اشتمال، وإليه ذهب أبو البقاء، وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع إلى التابع إجمالا نحو: أعجبني زيد علمه؛ فإنه يعلم ابتداء أن زيدا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته، وتتضمن نسبة الإعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بني آدم نسبة إلى ظهورهم إجمالا؛ لأنه يعلم ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم، وتتضمن الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم إجمالا، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض؛ لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو: أكلت الرغيف نصفه، فإن النسبة تامة لو لم يذكر النصف، ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة، بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر. و (من) في الموضعين ابتدائية، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال، قيل: وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات. وقوله تعالى: ذريتهم مفعول (أخذ) أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها، ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (ذرياتهم) والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والإشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخرج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج [ ص: 101 ] الفروع من الأصول حسب ترتب الولادة ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص.

                                                                                                                                                                                                                                      وأشهدهم على أنفسهم أي: أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم: ألست بربكم أي: مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم قالوا في جوابه سبحانه وتعالى: بلى شهدنا أي: على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك، والمراد: أقررنا بذلك. وجاء أن القاضي شريحا قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك، ومن هناك قال الجلال السيوطي: إن هذه الآية أصل في الإقرار، و (بلى) حرف جواب، وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع: الأصل بل، والألف زائدة، وبعض أولئك يقول: إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت؛ لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى وتلك لا تمال، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد إبطاله سواء كان مجردا أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان أو تقريريا، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال ابن عباس وغيره: لو قالوا: نعم لكفروا. ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقهاء: لو قال: أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى لزمته، ونعم لا. وقال آخرون: تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة.

                                                                                                                                                                                                                                      ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل (أم) متصلة على ما قيل في قوله تعالى: أفلا تبصرون أم أنا خير من فإنها لا تقع بعد الإيجاب، وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له، قال ابن هشام: ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب؛ وذلك متفق عليه، بلى قد جاءتك آياتي متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أنت الذي لقيتني بمكة؟ فقال له المجيب: بلى».

                                                                                                                                                                                                                                      وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك؛ لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل. انتهى. وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة؛ فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة، وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه، الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها، أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضي الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكا بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      وقد بعدت بالوصل بيني وبينها بلى إن من زار القبور ليبعدا

                                                                                                                                                                                                                                      وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون. انتهى. ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضي، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا: إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه، وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم، وقد قال لهم: ألستم ترون لهم ذلك؟ وقول جحدر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 102 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الليل يجمع أم عمرو     وإيانا فذاك بنا تداني
                                                                                                                                                                                                                                      نعم وأرى الهلال كما تراه     ويعلوها النهار كما علاني



                                                                                                                                                                                                                                      وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى، فإذا قيل: ألم أعطك درهما؟ قيل في تصديقه: نعم. وفي تكذيبه: بلى. وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى؛ فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى، وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور، وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أم عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال قدم عليه، وأما قول الأنصار فجاز لأمن اللبس؛ لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله: فذاك بنا تداني، ثم قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب: ألست بربكم بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله، برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارا وافيا، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا: نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ الأصل تطابق السؤال والجواب لفظا، وفيه نظر؛ لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربويته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى: فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      شكا إلي جملي طول السرى     مهلا رويدا فكلانا مبتلى

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      امتلأ الحوض وقال قطني     مهلا رويدا قد ملأت بطني

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: أن تقولوا من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا. وعلى ما يقول الكوفيون: لئلا تقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك: إنا كنا عن هذا أي: وحدانية الربوبية غافلين لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار [ ص: 103 ] حينئذ على ما قيل لأنهم نبهوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيؤا تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية