الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار وقال ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا قاله أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        610 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب لا يسعى إلى الصلاة إلخ ) سقطت هذه الترجمة من رواية الأصيلي ومن رواية أبي ذر عن غير السرخسي ، وثبوتها أصوب لقوله فيها " وقاله أبو قتادة " لأن الضمير يعود على ما ذكر في الترجمة ، ولولا ذلك لعاد الضمير إلى المتن السابق فيكون ذكر أبي قتادة تكرارا بلا فائدة لأنه ساقه عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وعن الزهري ) أي بالإسناد الذي قبله ، وهو آدم عن ابن أبي ذئب عنه ، أي أن ابن أبي ذئب حدث به عن الزهري عن شيخين حدثاه به عن أبي هريرة ، وقد جمعهما المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " عن آدم فقال فيه " عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة " وكذلك أخرجه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عنهما ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الزهري وجزم بأنه عنده عنهما جميعا قال : وكان ربما اقتصر على أحدهما . وأما الترمذي فإنه أخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد وحده ، قال : [ ص: 139 ] وقول عبد الرزاق أصح ، ثم أخرجه من طريق ابن عيينة عن الزهري كما قال عبد الرزاق ، وهذا عمل صحيح لو لم يثبت أن الزهري حدث به عنهما . وقد أخرجه المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة وحده فترجح ما قال الدارقطني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا سمعتم الإقامة ) هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة " إذا أتيتم الصلاة " لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة ، لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك ، ومع ذلك فقد نهى عن الإسراع ، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى عن الإسراع من باب الأولى . وقد لحظ فيه بعضهم معنى غير هذا فقال : الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد انبهر فيقرأ وهو في تلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره ، بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح . انتهى . وقضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة ، وهو مخالف لصريح قوله إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة ، وإنما قيد في الحديث الثاني بالإقامة لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وعليكم بالسكينة ) كذا في رواية أبي ذر ، ولغيره وعليكم السكينة بغير باء ، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس ، وضبطها القرطبي شارحه بالنصب على الإغراء ، وضبطها النووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال ، واستشكل بعضهم دخول الباء قال : لأنه متعد بنفسه كقوله تعالىعليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث عليكم برخصة الله وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء وحديث فعليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية ، وحديث " عليك بعيبتك " قالته عائشة لعمر ، وحديث عليكم بقيام الليل وحديث " عليك بخويصة نفسك " وغير ذلك . ثم إن الذي علل به هذا المعترض غير موف بمقصوده ، إذ لا يلزم من كونه يجوز أن يتعدى بنفسه امتناع تعديه بالباء ، وإذا ثبت ذلك فيدل على أن فيه لغتين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة : الحكمة في هذا الأمر تستفاد من زيادة وقعت في مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة أي أنه في حكم المصلي ، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والوقار ) قال عياض والقرطبي : هو بمعنى السكينة ، وذكر على سبيل التأكيد . وقال النووي : الظاهر أن بينهما فرقا ، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا تسرعوا ) فيه زيادة تأكيد ، ويستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة " لا تفعلوا " أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار ، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار كمن خاف فوت التكبيرة فلا ، وهذا محكي عن إسحاق بن راهويه وقد تقدمت رواية العلاء التي فيها " فهو في صلاة " قال النووي : نبه بذلك على أنه لم يدرك من الصلاة شيئا لكان محصلا لمقصوده لكونه في صلاة ، وعدم الإسراع أيضا يستلزم كثرة الخطا وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم أن بكل خطوة [ ص: 140 ] درجة ولأبي داود من طريق سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار مرفوعا إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد ، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة ، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له ، فإن أتى وقد صلوا بعضا وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك ، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فما أدركتم فصلوا ) قال الكرماني : الفاء جواب شرط محذوف ، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : أو التقدير إذا فعلتم ما أدركتم أي فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع . واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين القليل والكثير ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة للحديث السابق من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك وقياسا على الجمعة ، وقد قدمنا الجواب عنه في موضعه وأنه ورد في الأوقات ، وأن في الجمعة حديثا خاصا بها . واستدل به أيضا على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها ، وفيه حديث أصرح منه أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن رفيع عن رجل من الأنصار مرفوعا من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وما فاتكم فأتموا ) أي أكملوا ، هذا هو الصحيح في رواية الزهري ، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ " فاقضوا " وحكم مسلم في التمييز عليه بالوهم في هذه اللفظة ، مع أنه أخرج إسناده في صحيحه لكن لم يسق لفظه ، وكذا روى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة فقال " فاقضوا " وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بلفظ " فأتموا " . واختلف أيضا في حديث أبي قتادة ، فرواية الجمهور " فأتموا " ووقع لمعاوية بن هشام عن سفيان " فاقضوا " كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه ، وأخرج مسلم إسناده في صحيحه عن ابن أبي شيبة فلم يسق لفظه أيضا ، وروى أبو داود مثله عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : ووقعت في رواية أبي رافع عن أبي هريرة ، واختلف في حديث أبي ذر قال : وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة " وليقض " .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ورواية ابن سيرين عند مسلم بلفظ " صل ما أدركت ، واقض ما سبقك " والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ " فأتموا " وأقلها بلفظ " فاقضوا " وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإمام والقضاء مغايرة ، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى ، وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا ، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ، ويرد بمعان أخر فيحمل قوله فاقضوا على معنى الأداء أو الفراغ فلا يغاير قوله فأتموا ، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخيرتين وقراءة السورة وترك القنوت ، بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه ، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال ، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد . وقول ابن بطال إنه ما تشهد إلا لأجل السلام لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور ، واستدل ابن المنذر لذلك أيضا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى ، وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا . إن ما أدرك المأموم هو أول صلاته [ ص: 141 ] إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية ، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين ، وكأن الحجة فيه قوله " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن " أخرجه البيهقي ، وعن إسحاق والمزني لا يقرأ إلا أم القرآن فقط وهو القياس ، واستدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته ، لأنه فاته الوقوف والقراءة فيه ، وهو قول أبي هريرة وجماعة ، بل حكاه البخاري في " القراءة خلف الإمام " عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام ، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية ، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين والله أعلم . وحجة الجمهور حديث أبي بكرة حيث ركع دون الصف ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة ، وسيأتي في أثناء صفة الصلاة إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية