الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ومواقيت الإحرام ذو الحليفة وذات عرق والجحفة وقرن ويلملم لأهلها ولمن مر بها ) أي الأمكنة التي لا يتجاوزها الآفاقي إلا محرما خمسة فالميقات مشترك بين الوقت المعين والمكان المعين والمراد هنا الثاني وسيأتي الأول وذو الحليفة بضم الحاء المهملة وبالفاء بينه وبين مكة نحو عشر مراحل ، أو تسع وبينه وبين المدينة ستة أميال كما ذكره النووي وقيل سبعة كما ذكره القاضي عياض ميقات أهل المدينة وهو أبعد المواقيت وبهذا المكان آبار تسميه العوام آبار علي قيل ; لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل الجن في بعض تلك الآبار وهو كذب من قائله كما ذكره الحلبي في مناسكه وذات عرق بكسر العين وسكون الراء لجميع أهل المشرق وهي بين المشرق والمغرب من مكة قيل وبينها وبين مكة مرحلتان والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة واسمها في الأصل مهيعة نزل بها سيل جحف أهلها أي استأصلهم فسميت جحفة قال النووي بينهما وبين مكة ثلاث مراحل وهي قرية بين المغرب والشمال من مكة من طريق تبوك وهي طريق أهل الشام ونواحيها اليوم وهي ميقات أهل مصر والمغرب والشام وقرن بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل مطل على عرفات بينه وبين مكة نحو مرحلتين وفي الصحاح أنه بفتح الراء وأن أويسا القرني منسوب إليه ورد بأنه بسكون الراء وأن أويسا منسوب إلى قبيلة يقال لها بنو قرن بطن من مراد وهو ميقات أهل نجد وأما يلملم فهو ميقات أهل اليمن وهو مكان جنوبي مكة وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة فهذا هو المراد بقوله لأهلها وهذه المواقيت ما عدا ذات عرق ثابتة في الصحيحين وذات عرق في صحيح مسلم وسنن أبي داود وقوله لمن مر بها يعني من غير أهلها وقد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا ويعلم منه أن الشامي إذا مر على ذي الحليفة في ذهابه لا يلزمه الإحرام منه بالطريق الأولى وإنما يجب عليه أن يحرم من الجحفة .

                                                                                        [ ص: 342 ] كالمصري لكن قيل إن الجحفة قد ذهبت أعلامها ولم يبق بها إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي ولهذا والله أعلم اختار الناس الإحرام من المكان المسمى برابض وبعضهم يجعله بالغين احتياطا ; لأنه قبل الجحفة بنصف مرحلة ، أو قريب من ذلك وقد قالوا ومن كان في بر ، أو بحر لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ويعرف بالاجتهاد وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل ذكر لي بعض أهل العلم من الشافعية المقيمين بمكة في الحجة الرابعة للعبد الضعيف أن المحاذاة حاصلة في هذا الميقات فينبغي على مذهب الحنفية أن لا يلزم الإحرام من رابغ بل من خليص القرية المعروفة فإنه حينئذ يكون محاذيا لآخر المواقيت وهو قرن فأجبته بجوابين الأول أن إحرام المصري والشامي لم يكن بالمحاذاة وإنما هو بالمرور على الجحفة وإن لم تكن معروفة وإحرامهم قبلها احتياطا والمحاذاة إنما تعتبر عند عدم المرور على المواقيت الثاني أن مرادهم المحاذاة القريبة ومحاذاة المارين لقرن بعيدة ; لأن بينهم وبينه بعض جبال والله أعلم بحقيقة الحال أطلق في الإحرام فشمل إحرام الحج وإحرام العمرة ; لأنه لا فرق بينهما في حق الآفاقي وشمل ما إذا كان قاصدا عند المجاوزة الحج ، أو العمرة أو التجارة ، أو القتال ، أو غير ذلك بعد أن يكون قد قصد دخول مكة ; لأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فاستوى فيه الكل وأما دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام يوم الفتح فكان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم { مكة حرام لم تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما } يعني الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده عليه الصلاة والسلام للقتال وقيدنا بقصد مكة ; لأن الآفاقي إذا قصد موضعا من الحل كخليص يجوز له أن يتجاوز الميقات غير محرم وإذا وصل إليه التحق بأهله ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو العمرة وهي الحيلة لمن أراد أن يدخل مكة بغير إحرام وينبغي أن لا تجوز هذه الحيلة للمأمور بالحج ; لأنه حينئذ لم يكن سفره للحج ولأنه مأمور بحجة آفاقية وإذا دخل مكة بغير إحرام صارت حجته مكية فكان مخالفا وهذه .

                                                                                        [ ص: 343 ] المسألة يكثر وقوعها فيمن يسافر في البحر الملح وهو مأمور بالحج ويكون ذلك في وسط السنة فهل له أن يقصد البندر المعروف بجدة ليدخل مكة بغير إحرام حتى لا يطول الإحرام عليه لو أحرم بالحج فإن المأمور بالحج ليس له أن يحرم بالعمرة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : فالميقات مشترك إلخ ) قال في النهر المواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت المحدود استعير للمكان أعني مكان الإحرام كما استعير المكان للوقت في قوله تعالى { هنالك ابتلي المؤمنون } قال بعض المتأخرين ومنه قولهم ووقته البستان وهو سهو ظاهر إذ المعنى كما في المغرب وغيره ميقاته بستان بني عامر ولا ينافيه قول الجوهري الميقات موضع الإحرام ; لأنه ليس من رأيه التفرقة بين الحقيقة والمجاز وكأنه في البحر استند إلى ظاهر ما في الصحاح فزعم أنه مشترك بين الوقت والمكان المعين والمراد هنا الثاني وأعرض عن كلامهم السابق وقد علمت ما هو الواقع ( قوله : الحلبي ) أي العلامة محمد بن أمير حاج الحلبي تلميذ المحقق ابن الهمام وشارح تحريره الأصولي وشارح منية المصلي وهو أقدم من الحلبي صاحب الملتقى وشارح المنية أيضا واسمه إبراهيم ( قوله : وإن كان هو الأفضل ) ذكر منلا علي القاري في شرح اللباب أنه يكره وفاقا بين علمائنا خلافا لابن أمير حاج حيث قال هو الأفضل ا هـ .

                                                                                        أي الأفضل تأخير المدني إحرامه إلى الجحفة وعبارة متن اللباب والمدني إذا جاوز وقته غير محرم كره وفي لزوم الدم خلاف وصحح سقوطه ا هـ .

                                                                                        وقال شارحه ولعله أشار إلى ما في النخبة أن من كان في طريقه ميقاتان لا يجوز أن يتعدى إلى الثاني على الأصح فالدم يكون متفرعا على القول المقابل للأصح لكن الأظهر أن يقال وصحح عدم وجوبه ; لأن من في طريقه ميقاتان مخير في أن يحرم من الأول وهو الأفضل عند الجمهور خروجا عن الخلاف فإنه متعين عند الشافعي أو يحرم من الثاني فإنه رخصة له وقيل إنه فضل بالنسبة إلى أكثر أرباب النسك فإنهم إذا أحرموا من الميقات الأول ارتكبوا كثيرا من المحظورات بعذر وبغيره قبل وصولهم إلى الميقات الثاني فيكون الأفضل في حقهم التأخير وهذا لا ينافي ما في البدائع من جاوز ميقاتا من هذه المواقيت من غير إحرام إلى ميقات آخر جاز إلا أن المستحب أن يحرم من الميقات الأول كذا روي عن أبي حنيفة أنه قال في غير أهل المدينة إذا مروا على المدينة فجاوزوها إلى الجحفة فلا بأس بذلك وأحب إلي أن يحرموا من ذي الحليفة ; لأنهم لما وصلوا إلى الميقات الأول لزمهم محافظة حرمتهم فيكره لهم تركها ا هـ .

                                                                                        ومثله ذكره القدوري في شرحه وبه قال عطاء وبعض المالكية والحنابلة ووجه عدم التنافي أن حكم الاستحباب المذكور نظرا إلى الأحوط خروجا عن الخلاف وللمسارعة والمبادرة إلى الطاعة وأن قوله الأفضل التأخير بناء على فساد الزمان [ ص: 342 ] ومكاثرة مباشرة العصيان ومثله قولهم التقديم على الميقات أفضل حتى قال بعض السلف من إتمام الحج الإحرام من دويرة أهله لكنه مقيد بمن يكون مأمونا عن الوقوع في محظورات إحرامه إلا أن في قول أبي حنيفة في غير أهل المدينة إشارة إلى أن أهل المدينة ليس لهم أن يجاوزوا عن ميقاتهم المعين لهم على لسان الشرع وبه يجمع بين الروايتين المختلفتين عن أبي حنيفة فعنه أنه لو لم يحرم من ذي الحليفة وأحرم من الجحفة أن عليه دما وبه قال مالك والشافعي وأحمد وعنه ما سبق من قوله لا بأس فتحمل رواية وجوب الدم على المدنيين وعدمه على غيرهم والله أعلم ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وإلا فآخر المواقيت إلخ ) أي وإلا نقل بأن المراد بالمحاذاة المحاذاة القريبة يلزم عليه أن لا يجب على الشامي كالمصري الإحرام من الجحفة بل يجوز له مجاوزتها والإحرام بعدها حين يحاذي قرن المنازل ; لأنه آخر المواقيت باعتبار المحاذاة فينافي ما مر من وجوب الإحرام من الجحفة وقوله ذكر لي إلخ بيان لذلك مع زيادة ( قوله : ذكر لي بعض أهل العلم من الشافعية ) يعني به الشيخ شهاب الدين بن حجر شارح المنهاج والشمائل وغيرهما وكان من أجلائهم وقد أدركته في آخر عمره كذا في النهر ثم قال وأقول : في الجواب الثاني ما لا يخفى ; لأن من لا يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها قربت المحاذاة أو بعدت ( قوله : عند عدم المرور على المواقيت ) أخذ التقييد به من قولهم المنقول سابقا ومن كان في بحر أو بر لا يمر بواحد من هذه المواقيت إلخ ( قوله : ; لأنه حينئذ لم يكن سفره للحج ) هذا التعليل يفيد أنه لا ترتفع المخالفة بخروجه بعد إلى أحد المواقيت وإحرامه منه ونقل كلام المؤلف هنا الشيخ حنيف الدين المرشدي في شرح منسكه وأقره ونقله عنه القاضي محمد عيد في شرح منسكه كما في حاشية المدني على الدر المختار ثم قال فيها ونقل المنلا علي القاري في رسالته المسماة بيان فعل الخير إذا دخل مكة من حج عن الغير أنه وقعت مسألة اضطرب فيها فقهاء العصر وهي أن الآفاقي الحاج عن الغير إذا انفصل عن الميقات بغير إحرام للحج هل هو مخالف أم لا فقيل نعم فيبطل حجه عن الآمر وإن عاد إلى الميقات وأحرم وقيل لا بل عليه أن يرجع إلى الميقات ويحرم عن الآمر واعتمد الأولون على ظاهر ما في المنسك الكبير للسندي أن من شروط صحة الحج عن الآمر أن يحرم من الميقات فلو اعتمر وقد أمره بالحج ثم حج من مكة يضمن في قولهم جميعا ولا يجوز ذلك عن حجة الإسلام ; لأنه مأمور بحجة ميقاتية ا هـ .

                                                                                        ولا يصح الاعتماد عليه ; لأن الشرط فرض لا يثبت إلا بدليل قطعي ، فمجرد قوله من غير نقله عن مجتهد أو إسناده إلى دليل غير مقبول ، وأطال إلى أن قال وبما ذكرناه أفتى الشيخ قطب الدين وشيخنا سنان الرومي في منسكه وأفتى به أيضا الشيخ علي المقدسي [ ص: 343 ] ونقل فتواه فراجعها ا هـ .

                                                                                        ما في الحاشية ملخصا أقول : وفي رده ما ذكره السندي نظر ; لأن المسألة منقولة والمقلد متبع للمجتهد وإن لم يظهر دليله ففي التتارخانية عن المحيط ولو أمره بالحج فاعتمر ثم حج من مكة فهو مخالف في قولهم وفي الخانية ولا يجوز ذلك عن حجة الإسلام عن نفسه وكذا لو حج ثم اعتمر كان مخالفا عند العامة وفي المحيط ولو أمره بالعمرة فاعتمر أولا ثم حج عن نفسه لم يكن مخالفا وإن حج أولا ثم اعتمر فهو مخالف ا هـ .

                                                                                        فليتأمل فقد يقال إنه جعل مخالفا لكونه أحرم أولا بغير ما أمر به فقد جعل سفره لنفسه فلا يدل على اشتراط إحرام المأمور من الميقات وأنه لا يقع عن الآمر وإن عاد إلى الميقات إذا لم يفعل أولا نسكا لم يؤمر به فينبغي التفصيل وهو أنه إن جاوز الميقات بلا إحرام قاصدا البستان ثم دخل مكة ثم خرج إلى الحل وقت الإحرام فأحرم من الميقات عن الآمر يجوز ; لأنه صار آفاقيا كما يأتي وإن فعل نسكا غير ما أمر به قبل إحرامه عن الآمر يكون مخالفا وإن عاد إلى الميقات وأحرم عنه من الميقات فتأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية