الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين

هذا استئناف ابتدائي ليس متصلا بالكلام السابق ، وإنما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة ، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم ، وفي الآية ما يدل على أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر لهم .

روى المفسرون عن ابن عباس أنه لما نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله : سخر الله منهم ولهم عذاب أليم . قال فريق منهم : استغفر لنا يا رسول الله ، أي ممن صدر منه عمل وبخوا عليه في القرآن دون تصريح بأن فاعله منافق فوعدهم النبيء - عليه الصلاة والسلام - بأن يستغفر للذين سألوه . وقال الحسن : كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه ، ويقولون : إن أردنا إلا الحسنى . وذلك في معنى الاستغفار ، أي طلب محو ما عد عليهم أنه ذنب ، يريدون أنه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم . وعن الأصم أن عبد الله بن أبي ابن سلول لما ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكر الناس له من كل جهة لقيه رجل من قومه فقال له : ارجع إلى رسول الله يستغفر لك ، فقال : ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي . فنزل فيه قوله - تعالى - في سورة المنافقين وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم يعني فتكون هذه الآية مؤكدة لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعا بين الروايات .

[ ص: 277 ] وعن الشعبي ، وعروة ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة أن عبد الله بن أبي ابن سلول مرض فسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له ففعل . فنزلت ، فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم

والذي يظهر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أوحي إليه بآية سورة المنافقين ، وفيها أن استغفاره وعدمه سواء في حقهم . تأول ذلك على الاستغفار غير المؤكد ، وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدره من اعتراضهم عن الإيمان أن يستغفر للمنافقين استغفارا مكررا مؤكدا عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه - تعالى - فيهديهم إلى الإيمان الحق . بما أن مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجر إلى تعلق هديه بقلوبهم بأقل سبب ، فيكون نزول هذه الآية تأييسا من رضى الله عنهم ، أي عن البقية الباقية منهم تأييسا لهم ولمن كان على شاكلتهم ممن اطلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار ، فالآية تأييس من غير تعيين .

وصيغة الأمر في قوله : ( استغفر ) مستعملة في معنى التسوية ، المراد منها ( لازمها ) وهو عدم الحذر من الأمر المباح ، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي ترد صيغة الأمر لإفادتها كثيرا ، وعد علماء أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثلوه بقوله - تعالى : اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا

فأما قوله : أو لا تستغفر لهم فموقعه غريب ولم يعن المفسرون والمعربون ببيانه ، فإن كونه بعد لا مجزوما يجعله في صورة النهي ، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة . فلا يتأتى منه معنى يعادل معنى التسوية التي استعمل فيها الأمر . ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر .

وتأويل الآية : إما أن تكون لا نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفا على فعل الأمر ، فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره [ ص: 278 ] الأخفش من البصريين ، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص ، شيخ أبي حيان ، وهو الحق لأنه لو كان مبنيا للزم حالة واحدة ، ولأن أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظا في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهم .

ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنه لا وجه لجزم الفعل لو كان كذلك ، لاسيما والأمر مؤول بالخبر ، ثم إن ما أفاده حرف التخيير قد دل على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما .

وإما أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنها قارنت الأمر الدال على إرادة التسوية ويكون المعنى : أمرك بالاستغفار لهم ونهيك عنه سواء ، وذلك كناية عن كون الآمر والناهي ليس بمغير مراده فيهم ، سواء فعل المأمور أو فعل المنهي ، ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف . والتقدير : نقول لك : استغفر لهم ، أو نقول : لا تستغفر لهم .

و سبعين مرة غير مراد به المقدار من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة . قال الكشاف " السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر " . ويدل له قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت . وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب . وأما ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال وسأزيد على السبعين فهو توهم من الراوي لمنافاته رواية عمر بن الخطاب ، ورواية عمر أرجح لأنه صاحب القصة ، ولأن تلك الزيادة لم ترو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه والنسائي .

وانتصب سبعين مرة على المفعولية المطلقة لبيان العدد . وتقدم الكلام على لفظ ( مرة ) عند قوله - تعالى : وهم بدءوكم أول مرة في هذه السورة .

وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم الله نفاقهم وأعلم نبيئه - عليه الصلاة والسلام - بهم . وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغترارا بظاهر حالهم .

[ ص: 279 ] وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامة المسلمين ، والقرآن ينعتهم بسيماهم كيلا يطمئن لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم ، فبذلك قضي حق المصالح كلها .

ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لأن المشركين كفرهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحا ، وكفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفرة لهم منوطا بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاما بباطن حاله الذي اقتضت حكمة الشريعة عدم كشفه . وقال في أبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فلما نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له .

وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأن صلاة الجنازة من الاستغفار ولما مات عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد نزول هذه الآية وسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه ، فصلى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبيء - صلى الله عليه وسلم - قد نهاك ربك أن تصلي عليه ، قال له على سبيل الرد إنما خيرني الله ، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار ، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى ، ولعل النبيء - صلى الله عليه وسلم - أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وكذلك في لفظ عدد سبعين مرة استقصاء لمظنة الرحمة على نحو ما أصلناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .

والإشارة في قوله : ذلك بأنهم كفروا لانتفاء الغفران المستفاد من قوله : فلن يغفر الله لهم

والباء للسببية ، وكفرهم بالله هو الشرك . وكفرهم برسوله جحدهم رسالته - صلى الله عليه وسلم - وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - يطلق عليه كافر .

[ ص: 280 ] ومعنى والله لا يهدي القوم الفاسقين أن الله لا يقدر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم ، أي بعدهم عن التأمل في أدلة النبوءة ، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طبع على قلبه فلا يقبل الهدى فمعنى لا يهدي لا يخلق الهدى في قلوبهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية