الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ؛ [ ص: 77 ] " إن " ؛ تنصب " الذين " ؛ وهي تنصب الأسماء؛ وترفع الأخبار؛ ومعناها في الكلام التوكيد؛ وهي آلة من آلات القسم؛ وإنما نصبت ورفعت لأنها تشبه بالفعل؛ وشبهها به أنها لا تلي الأفعال؛ ولا تعمل فيها؛ وإنما يذكر بعدها الاسم والخبر؛ كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول؛ إلا أنه قدم المفعول به فيها ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل؛ وبين ما يشبه به وليس لفظه لفظ الفعل؛ وخبرها ههنا جملة الكلام؛ أعني: قوله: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ؛ وترفع " سواء " ؛ بالابتداء؛ وتقوم " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ؛ مقام الخبر؛ كأنه بمنزلة قولك: " سواء عليهم الإنذار وتركه " ؛ و " سواء " ؛ موضوع موضع " مستو " ؛ لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماء الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم؛ فأما دخول ألف الاستفهام؛ ودخول " أم " ؛ التي للاستفهام؛ والكلام خبر؛ فإنما وقع ذلك لمعنى التسوية؛ والتسوية آلتها ألف الاستفهام؛ و " أم " ؛ تقول: " أزيد في الدار؛ أم عمرو " ؛ فإنما دخلت الألف؛ و " أم " ؛ لأن علمك قد استوى في زيد وعمرو؛ وقد علمت أن أحدهما في الدار؛ لا محالة؛ ولكنك أردت أن يبين لك الذي علمت؛ ويخلص لك علمه من غيره؛ فلهذا تقول: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو " ؛ وإنما تريد أن تسوي عند من تخبره العلم الذي قد خلص عندك؛ وكذلك " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ؛ دخلت الألف؛ و " أم " ؛ للتسوية؛ فأما " أأنذرتهم " ؛ فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة؛ ولا يجمع بين الهمزتين؛ وإن كانتا من كلمتين؛ فأما أهل الحجاز فلا يحققون واحدة منهما؛ وأما بعض القراء - ابن أبي إسحاق ؛ وغيره - فيجمعون في القراءة بينهما؛ فيقرؤون: " أأنذرتهم " ؛ وكثير من القراء يخفف إحداهما؛ وزعم سيبويه أن [ ص: 78 ] الخليل كان يرى تخفيف الثانية؛ فيقول: " آنذرتهم " ؛ فيجعل الثانية بين الهمزة؛ والألف؛ ولا يجعلها ألفا خالصة؛ ومن جعلها ألفا خالصة فقد أخطأ من جهتين: إحداهما أنه جمع بين ساكنين؛ والأخرى أنه أبدل من همزة متحركة قبلها حركة؛ ألفا؛ والحركة الفتح؛ وإنما حق الهمزة إذا حركت؛ وانفتح ما قبلها؛ أن تجعل بين بين؛ أعني بين الهمزة؛ وبين الحرف الذي منه حركتها؛ فتقول في " سأل " : " سال " ؛ وفي " رؤوف " : " رووف " ؛ وفي " بئس " : " بيس " ؛ بين بين؛ وهذا في الحكم واحد؛ وإنما تحكمه المشافهة؛ وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله (تعالى): فقد جاء أشراطها ؛ تخفيف الأولى؛ وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرؤون: " فقد جا أشراطها " ؛ يحققون الثانية؛ ويخففون الأولى؛ وهذا مذهب أبي عمرو بن العلاء ؛ وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى؛ فيقول: " فقد جاء اشراطها " ؛ قال الخليل : وإنما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك: " آدم " ؛ و " آخر " ؛ لأن الأصل في " آدم " : " أادم " ؛ وفي " آخر " : " أاخر " ؛ وقول الخليل أقيس؛ وقول أبي عمرو جيد أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                        قال أبو إسحاق : الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة؛ ولا يمكن تخفيف الهمزة المبتدأة؛ ولكن إن ألقي همزة ألف الاستفهام على سكون الميم من " عليهم " ؛ فقلت: " عليهم أنذرتهم " ؛ جاز؛ ولكن لم يقرأ به أحد؛ والهمزتان في [ ص: 79 ] قوله: " فقد جاء أشراطها " ؛ همزتان في وسط الكلمة؛ ويمكن تخفيف الأولى؛ فأما من خفف الهمزة الأولى في قوله: " أأنذرتهم " ؛ فإنه طرحها البتة؛ وألقى حركتها على الميم؛ ولا أعلم أحدا قرأ بها؛ والواجب - على لغة أهل الحجاز - أن يكون: " عليهم انذرتهم " ؛ فيفتح الميم؛ ويجعل الهمزة الثانية بين بين؛ وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز؛ ويجوز أن يكون " لا يؤمنون " ؛ خبر " إن " ؛ كأنه قيل: " إن الذين كفروا لا يؤمنون؛ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ؛ هؤلاء قوم أنبأ الله - تبارك وتعالى - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يؤمنون؛ كما قال - عز وجل -: ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد ؛ فأما الهمزتان إذا كانتا مكسورتين؛ نحو قوله - عز وجل -: على البغاء إن أردن تحصنا ؛ وإذا كانتا مضمومتين؛ نحو قوله: أولياء أولئك ؛ فإن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما؛ فيقول: " على البغا إن أردن " ؛ و: " أوليا أولئك " ؛ فيجعل الهمزة الأولى من " البغاء " ؛ بين الهمزة؛ والياء؛ ويكسرها؛ ويجعل الهمزة في قولك: " أوليا أولئك " ؛ الأولى؛ بين الواو؛ والهمزة؛ ويضمها.

                                                                                                                                                                                                                                        وحكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في " البغاء إن " ؛ وضمة في " أولياء أولئك " ؛ أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع؛ لأنه الثقة المأمون عند العلماء؛ إلا أنه لا يضبط مثل هذا الموضع؛ لأن الذي قاله محال؛ لأن الهمزة إذا سقطت؛ وأبدلت منها كسرة؛ وضمة - على ما وصف - [ ص: 80 ] بقيت الحركتان في غير حرف؛ وهذا محال؛ لأن الحركة لا تكون في غير محرك.

                                                                                                                                                                                                                                        قال أبو إسحاق : والذي حكيناه آنفا رواية سيبويه عن أبي عمرو ؛ وهو أضبط لهذا؛ وأما قوله: السفهاء ألا ؛ وقوله: وإليه النشور أأمنتم من في السماء أن ؛ فإن الهمزتين إذا اختلفتا؛ حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من الثانية فتحة؛ وهذا خلاف ما حكاه سيبويه ؛ والقول فيه أيضا محال؛ لأن الفتحة لا تقوم بذاتها؛ إنما تقوم على حرف؛ وجملة ما يقول النحويون في المسألة الأولى؛ في مثل قوله: " على البغاء إن " ؛ أو: " أولياء أولئك " ؛ ثلاثة أقوال؛ على لغة غير أهل الحجاز؛ فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه ؛ والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بين؛ فإذا كان مضموما جعل الهمزة بين الواو؛ والهمزة؛ فقال: " أولياء اولئك " ؛ وإذا كان مكسورا جعل الهمزة بين الياء؛ والهمزة؛ فقال: " على البغاءين " ؛ وأما أبو عمرو فقرأ على ما ذكرناه؛ وأما ابن أبي إسحاق - ومذهبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين؛ فيقرأ: " أولياء أولئك " ؛ و: " على البغاء إن أردن " ؛ بتحقيق الهمزتين؛ وأما اختلاف الهمزتين؛ نحو " السفهاء ألا " ؛ فأكثر القراء على مذهب ابن أبي إسحاق ؛ وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه ؛ ويخفف [ ص: 81 ] الأولى؛ فيجعلها بين الواو والهمزة؛ فيقول: " السفهاا ألا " ؛ بين بين؛ ويقول: " من في السماي أن " ؛ فيحقق الثانية؛ وأما سيبويه ؛ والخليل ؛ فيقولان: " السفهاء ولا " ؛ فيجعلان الهمزة الثانية واوا خالصة؛ وفي قوله: " من في السماء ين " ؛ ياء خالصة مفتوحة؛ فهذا جميع ما في هذا الباب.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت همزتان طرحت إحداهما؛ وهذا ليس بثبت؛ لأن القياس لا يوجبه؛ وأبو عبيد لم يحقق في روايته؛ لأنه قال: رواه بعضهم؛ وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه؛ فإن كان هذا صحيحا عنه؛ فهو يجوزه في نحو: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ؛ وفي مثل قوله: آلذكرين حرم أم الأنثيين ؛ فيطرح همزة الاستفهام؛ لأن " أم " ؛ تدل عليها؛ قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر



                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 82 ] وقال عمر بن أبي ربيعة:


                                                                                                                                                                                                                                        لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ...     بسبع رمين الجمر أم بثمان



                                                                                                                                                                                                                                        البيت الأول أنشده الخليل ؛ وسيبويه؛ والبيت الثاني صحيح أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية