الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                      13- ثم قال: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر)

                                                                                                                                                                                                                      فجعل اللفظ واحدا، ثم قال: (وما هم بمؤمنين) فجعل اللفظ جميعا، وذلك أن : (من) اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعا في المعنى، ويكون اثنين. فإن لفظت بفعله على معناه؛ فهو صحيح. وإن جعلت فعله على لفظه واحدا؛ فهو صحيح. مما جاء من ذلك قوله: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 37 ] وقال: (ومنهم من يستمعون إليك) وقال: (ومنهم من ينظر إليك) وقال: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) فقال: (يقنت) فجعله على اللفظ؛ لأن اللفظ في : (من) مذكر وجعل : (تعمل) و : (نؤتها) على المعنى. وقد قال بعضهم : (ويعمل) ، فجعله على اللفظ؛ لأن لفظ : (من) مذكر. وقد قال بعضهم : (ومن تقنت) فجعله على المعنى؛ لأنه يعني امرأة. وهي حجة على من قال: لا يكون اللفظ في "من" على المعنى إلا أن تكون : (من) في معنى : (الذي). فأما المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في : (من) على المعنى.

                                                                                                                                                                                                                      وقولهم: "من هذا؟" خطأ؛ لأن هذا الموضع الذي فيه : (ومن تقنت) مجازاة.

                                                                                                                                                                                                                      وقد قالت العرب "ما جاءت حاجتك" فأنثوا "جاءت"؛ لأنها لـ "ما"، وإنما أنثوا لأن معنى "ما" هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضهم: "من كانت أمك" فنصب، وقال الشاعر [ الفرزدق ] :


                                                                                                                                                                                                                      (19) لعنتم فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 38 ] ويروى : (تعال فإن)

                                                                                                                                                                                                                      وقد جعل : (من) بمنزلة "رجل". قال الشاعر [ سويد بن أبي كاهل ] :


                                                                                                                                                                                                                      (20) رب من أنضجت غيظا صدره     قد تمنى لي شرا لم يطع

                                                                                                                                                                                                                      فلولا أنها نكرة بمنزلة "رجل" لم تقع عليها "رب".

                                                                                                                                                                                                                      وكذلك (ما) تكون نكرة، إلا أنها بمنزلة "شيء". ويقال: إن قوله: (هذا ما لدي عتيد) على هذا. جعل (ما) بمنزلة "شيء" ولم يجعلها بمنزلة "الذي"؛ فقال: "ذا شيء لدي عتيد". وقال الشاعر [ أمية بن أبي الصلت ] :


                                                                                                                                                                                                                      (21) رب ما تكره النفوس من الأمر     له فرجة كحل العقال

                                                                                                                                                                                                                      فلولا أنها نكرة بمنزلة "شيء" لم تقع عليها "رب".

                                                                                                                                                                                                                      وقد يكون : (هذا ما لدي عتيد) على وجه آخر، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول: "هذا أحمر أخضر". وذلك أن قوما من العرب يقولون: "هذا عبد الله مقبل". وفي قراءة ابن مسعود : (وهذا بعلي شيخ) كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا، أو يكون كأنه رفعه على التفسير؛ كأنه إذا قال: (هذا ما لدي) .

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 39 ] قيل: "ما هو"؟ أو علم أنه يراد ذلك منه فقال: (عتيد) أي ما عندي عتيد. وكذلك : (وهذا بعلي شيخ) وقال الراجز [ رؤبة ] :

                                                                                                                                                                                                                      (22) من يك ذا بت فهذا بتي     مقيظ مصيف مشتي

                                                                                                                                                                                                                      وقال: (إن الله نعما يعظكم به) فـ "ما" ها هنا اسم وليست له صلة؛ لأنك إن جعلت: (يعظكم به) صلة لـ (ما) صار كقولك: "إن الله نعم الشيء" أو "نعم شيئا". فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل (ما) اسما وحدها كما تقول: "غسلته غسلا نعما"، تريد به: "نعم غسلا". فإن قيل: "كيف تكون (ما) اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها؟" قلت: "هي بمنزلة "يا أيها الرجل"؛ لأن "أيا" ها هنا اسم ولا يتكلم به وحده حتى يوصف، فصار (ما) مثل الموصوف ها هنا؛ لأنك إذا قلت: "غسلته غسلا نعما"؛ فإنما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلم به وحده. ومثل "ما أحسن زيدا" (ما) ها هنا وحدها اسم، وقوله "إني مما أن أصنع كذا وكذا"؛ (ما) ها هنا وحدها اسم كأنه قال: "إني من الأمر" أو "من أمري صنيعي كذا وكذا".

                                                                                                                                                                                                                      ومما جاء على المعنى قوله: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) [17] لأن "الذي" يكون للجميع، كما قال: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) .

                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية