الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 64 ] الباب الخامس

في ذكر ألفات الوصل والقطع

هذا الباب تكلم النحاة عليه في كتب النحو، ونحن نذكر هنا ما يحتاج إليه المقرئ، وهذا الباب يشتمل على فصلين:

الفصل الأول: في ذكر الألفات التي تكون في أوائل الأفعال:

وإنما بدأنا بها قبل الأسماء لأن الأصول في الأسماء مشكلة، وفي الأفعال أبين وأوضح وأقرب على المتعلم.

مقدمة: إن سأل سائل: لم سميت الهمزة همزة وصل؟ فقل: لأنك إذا وصلت الكلام اتصل ما بعدها بما قبلها، وسقطت هي في اللفظ.

[ ص: 65 ] فإن قلت: لم ثبتت خطا وسقطت لفظا؟ قلت: وجه إثباتها في الخط لأن الكتاب وضع على السكون على كل حرف، والابتداء بما بعده، فثبتت في الخط كما ثبتت إذا ابتدئ بها.

فصل: اعلم أن ألفات الأفعال تنقسم على ستة أقسام:

القسم الأول: ألف الأصل: ويبتدأ بها بالفتح في الماضي، وتعرفها بأن تجدها فاء من الفعل، ثابتة في المستقبل، وذلك نحو {أتى أمر الله} [النحل: 1].

القسم الثاني: ألف الوصل: وتعرفها بسقوطها في الدرج، وبحذفها في أول المستقبل، وهي مبنية على ما قبل آخر المستقبل. إن كان مكسورا أو مفتوحا كسرت، وإن كان مضموما ضمت. مثال المكسورة إذا كان الثالث مكسورا {اهدنا} [الفاتحة: 6]، الدليل على أنها ألف وصل لأنها تحذف في الدرج، وتسقط في المستقبل في قولك: (هدى يهدي) ، فهذا يدل على أنها ألف وصل.

فإن قلت: لم دخلت في الابتداء وسقطت في الوصل؟ قلت: لأنا وجدنا الحرف الذي بعدها ساكنا، وهو الهاء في {اهدنا} والعرب لا تبتدئ بساكن، فأدخلت همزة يقع بها الابتداء. وأما حذفها في الوصل فإن الذي بعدها اتصل بالذي قبلها، فلم يكن لنا حاجة إليها.

[ ص: 66 ] فإن قلت: أي شيء تسميها: ألفا أم همزة؟ قلت: اختلف النحويون في ذلك. فقال الكسائي والفراء وسيبويه هي ألف، وحجتهم أن صورتها صورة الألف، فلقبت ألفا لهذا المعنى. وقال الأخفش: هي ألف ساكنة لا حركة لها كسرت في قوله: (اهدنا) وما أشبهه لسكونها ما بعدها. وقال رحمه الله: وضموها في نحو قوله: {اقتلوا} [يوسف: 9] وشبهه لأنهم كرهوا أن يكسروها وبعدها التاء مضمومة، فينتقلون من كسر إلى ضم، فضموها لضم الذي بعدها. قالوا: وهذا غلط، لأنها إذا كانت عنده ساكنة لا حركة لها فمحال أن يدخلها الابتداء، لأن العرب لا تبتدئ بساكن، ولا يجوز أن يدخل للابتداء حرف ينوى به السكون.

وقال قطرب: في ألف (اهدنا) وشبهها هي همزة كثرت فتركت. وهذا غلط، لأن الهمزة إذا كانت في أول كلمة ثم وصلت بشيء قبلها كانت مهموزة وصلا كما تهمز ابتداء نحو: {وأخذتم على ذلكم إصري} [آل عمران: 81] فالهمزة في (إصري) ثابتة في الوصل إذا كانت عندهم همزة.

[ ص: 67 ] فإن قلت: لم كسرت في قوله (اهدنا) ونحوه؟ قلت: لأنها مبنية على ثالث المستقبل، وهو الدال في (يهدي) . فإن قلت: لم لم تبنها على الأول أو على الثاني أو على الرابع؟ قلت لأن الأول زائد، لا يبنى عليه لزيادته، والثاني ساكن، لا يبنى عليه لسكونه، والرابع لا يثبت على إعراب واحد، وما قبل الآخر لا تتغير حركته.

فإن قلت: كيف تبتدئ بقوله {استطاعوا} [البقرة: 217] و {اسطاعوا} [الكهف: 97]؟ قلت: بالكسر، لأن الأصل في المستقبل: يستطوع فاستثقلوا الكسرة على الواو، فنقلوها إلى الطاء، فصارت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وقد حذفوا التاء في يستطيع كما حذفوها من استطاع، قال الشاعر:


والشعر لا يسطيعه من يطلبه يريد أن يعربه فيعجمه

فإن قلت: كيف تبتدئ في {انشقت} [الرحمن: 37]؟ قلت: بالكسر. قيل: فأنت تقول في المستقبل (ينشق) فقل: مسلم، لكن أصلها ينشقق على وزن ينفعل، فاستثقلوا الجمع بين قافين محركين، والعرب تكره الجمع بين مثلين، فأسقطوا حركة القاف، وأدغموها في الثانية، فصارت قافا مشددة.

[ ص: 68 ] وإن كان ثالث المستقبل مضموما ضمت الألف في الابتداء، فإنها مبنية على ثالثه، وإن كان الثالث مفتوحا كسرت.

فإن قلت: هلا فتحت كما ضمت مع ضم الثالث، وكسرت مع كسر الثالث؟ قلت: لأنها تلتبس بالخبر، وذلك أنك لو قلت في الخبر: أذهب أنا، وفي الأمر: اذهب أنت، لالتبس، فكسرناها لما بطل فتحها، لأن الفتح أخو الكسر.

فإن قلت: كيف تبتدئ بـ {اثاقلتم} [التوبة: 38] ، و {اداركوا} [الأعراف: 38]؟ قلت: بالكسر، لأن عين الفعل مفتوحة، وهي القاف في "يتثاقل" والراء في "يتدارك" لأن وزن "تثاقل": تفاعل، فالقاف في يتثاقل هي العين من تفاعل، فأدغموا التاء في الثاء، فصارت ثاء ساكنة، ولم يصح الابتداء بساكن، فأدخلوا ألفا لئلا يقع بها الابتداء، والحكم في {اطيرنا} [النمل: 47] ونحوه كذلك.

القسم الثالث: ألف القطع، وتعرفها بضم أول المستقبل، ثم لا يخلو: إما أن تقع في الفعل أو في المصدر، فإن وقعت في الفعل فهي مفتوحة، نحو: أخرج [الأعراف: 27] ونحوه، وإن كانت في المصادر ابتدئت بالكسر، نحو: إخراجا [نوح: 18].

فإن قيل: لم كسروها في المصدر؟ قلت: لئلا تلتبس بالجمع، لأنهم قالوا في المصدر (إخراجا) وفي الجمع (أخراجا) و (أبوابا) فلو فتحت لالتبس المصدر بجمع (خرج) فكسروا ليفرقوا بين المصدر والجمع.

[ ص: 69 ] القسم الرابع: ألف المخبر عن نفسه: وتعرفها بأن يحسن بعد الفعل الذي هي فيه لفظ (أنا) ، ويكون الفعل مستقبلا، كقوله تعالى: {سبيلي أدعو} [يوسف: 108]، و {أرني أنظر} [الأعراف: 143]، و {أفرغ عليه} [الكهف: 96]. فإن قلت: لم فتحت في (أدعو)، و (أنظر) وضمت في (أفرغ) وكلتاهما ألف المخبر عن نفسه؟ قلت: إذا كان الماضي فيه على ثلاثة أحرف فألفه مفتوحة، وإذا جاءت فيما لم يسم فاعله فهي مضمومة مطلقا. سواء قلت حروفه أو كثرت، نحو (أنظر) و (أفرغ) .

القسم الخامس: ألف الاستفهام: وتعرفها بمجيء (أم) بعدها، أو يحسن في موضعها (هل)، نحو {أفترى على الله كذبا أم به جنة} [سبأ: 8]، {أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} [المنافقون: 6] وشبه ذلك. وهي مفتوحة أبدا، والأصل (أافترى) ، (أاستغفرت) ، فحذفت الألف الثانية لأنها ألف وصل، ولا تمد الهمزة في هذا، مثل {آلذكرين} [الأنعام:143]، {الله [يونس: 59] ونحو ذلك، لأن الاستفهام والخبر في هذا مفتوحان، فمدوا الاستفهام ليميزوه من الخبر، و (أفترى) وشبهه الاستفهام مفتوح والخبر مكسور، فجعل الفرق بينهما بالفتح والكسر في هذا، وفي ذلك بالمد والقصر.

[ ص: 70 ] القسم السادس: ألف ما لم يسم فاعله: وهي مبنية على الضم، وتكون في أربعة أمثلة: في (أفعل)، نحو قوله تعالى: {أخرجنا} [البقرة: 246]. وألف استفعل، نحو قوله تعالى: {استجيب له} [الشورى: 16]، وكذلك {استحفظوا} [المائدة: 44]. وألف افتعل، نحو قوله تعالى: {ابتلي} [الأحزاب: 11] و {اضطر} [البقرة: 173] و {اجتثت} [إبراهيم: 26]، وكذلك {الذي اؤتمن} [البقرة: 283]، الأصل اؤتمن، فهي ألف افتعل، فجعلت الهمزة الساكنة واوا لانضمام ما قبلها في الابتداء. وأجاز الكسائي في غير القراءة أن يبتدأ بها محققة. وأما ألف انفعل فلم تأت في القرآن، وذلك نحو انقطع، فلم نطول فيها لهذا المعنى.

فإن قلت: لم صارت الألف في هذا الضرب مضمومة فقط؟ قلت: لأن فعل ما لم يسم فاعله يقتضي اثنين: فاعلا ومفعولا، فضموا أوله لتكون الضمة دالة على اثنين، لأنها أقوى الحركات وأثقلها، كما قالوا: زيد حيث عمرو، معناه زيد في مكان عمرو. فلما تضمنت معنى اثنين أعطيت الضمة لقوتها. وكذا قالوا في (نحن) لتضمنها معنى الجمع والتثنية، وكذلك فعلوا بألف ما لم يسم فاعله لما تضمن معنى الفاعل والمفعول، فضموا أوله في كل حال.

التالي السابق


الخدمات العلمية