الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ( 104 ) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 105 ) )

نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا يقولون : راعنا . يورون بالرعونة ، كما قال تعالى : ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : 46 ] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم ، بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون : السام عليكم . والسام هو : الموت . ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب " وعليكم " . وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .

والغرض : أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا . فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم )

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي منيب الجرشي ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له . وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .

وروى أبو داود ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به " من تشبه بقوم فهو منهم "

[ ص: 374 ]

ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد ، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ، ولباسهم وأعيادهم ، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولم نقرر عليها .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مسعر ، عن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود ، فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول ( ياأيها الذين آمنوا ) فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه .

وقال الأعمش ، عن خيثمة ، قال : ما تقرؤون في القرآن : ( ياأيها الذين آمنوا ) فإنه في التوراة : " يا أيها المساكين " .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( راعنا ) أي : أرعنا سمعك .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك . وإنما ( راعنا ) كقولك : عاطنا .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، وأبي مالك ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة ، نحو ذلك .

وقال مجاهد : ( لا تقولوا راعنا ) لا تقولوا خلافا . وفي رواية : لا تقولوا : اسمع منا ونسمع منك .

وقال عطاء : ( لا تقولوا راعنا ) كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها .

وقال الحسن : ( لا تقولوا راعنا ) قال : الراعن من القول السخري منه . نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه من الإسلام . وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله .

وقال أبو صخر : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ، فيقول : أرعنا سمعك . فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له .

وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع ، يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مسمع . وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير مسمع : غير صاغر . وهي كالتي في سورة النساء . فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا : راعنا .

[ ص: 375 ]

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بنحو من هذا .

قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم : راعنا ; لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي قال : " لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا : الحبلة . ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي " . وما أشبه ذلك .

وقوله تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ; ليقطع المودة بينهم وبينهم . وينبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل ، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول تعالى : ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )

التالي السابق


الخدمات العلمية