الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        32 - الحديث الخامس : عن أم سلمة رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قالت { جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، إذا رأت الماء } .

                                        [ ص: 139 ]

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 139 ] الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : قولها " إن الله لا يستحيي من الحق " هذا تمهيد لبسط عذرها في ذكرها ما يستحيي النساء من ذكره وهو أصل فيما يصنعه الكتاب والأدباء في ابتداء مكاتباتهم ومخاطباتهم من التمهيدات لما يأتون به بعد ذلك والذي يحسنه في مثل هذا : أن الذي يعتذر به إذا كان متقدما على المعتذر منه : أدركته النفس صافية من العتب ، وإذا تأخر العذر استثقلت النفس المعتذر منه ، فتأثرت بقبحه ، ثم يأتي العذر رافعا ، وعلى الأول : يأتي دافعا .

                                        الثاني : تكلموا في تأويل قولها إن الله لا يستحيي من الحق ولعل قائلا يقول : إنما يحتاج إلى تأويل الحياء ، إذا كان الكلام مثبتا ، كما جاء { إن الله حيي كريم } وأما في النفي : فالمستحيلات على الله تعالى تنفى ، ولا يشترط في النفي أن يكون المنفي ممكنا ، وجوابه أنه لم يرد النفي على الاستحياء مطلقا ، بل ورد على الاستحياء من الحق ، فبطريق المفهوم : يقتضي أنه يستحيي من غير الحق ، فيعود بطريق المفهوم إلى جانب الإثبات .

                                        ، الثالث : قيل في معناه لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يبيحه ، أو لا يمتنع من ذكره وأصل " الحياء " الامتناع ، أو ما يقاربه من معنى الانقباض ، وقيل : معناه أن سنة الله وشرعه أن لا يستحيي من الحق ، وأقول : أما تأويله على أن لا يمتنع من ذكره فقريب ; لأن المستحيي ممتنع من فعل ما يستحيي منه ، فالامتناع من لوازم الحياء ، فيطلق الحياء على الامتناع ، إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم ، وأما قولهم " أي لا يأمر بالحياء فيه ولا يبيحه " فيمكن في توجيهه ، أن يقال : يصح التعبير بالحياء عن الأمر بالحياء ; لأن الأمر بالحياء متعلق بالحياء ، فيصح إطلاق الحياء على الأمر به ، على سبيل إطلاق المتعلق على المتعلق به ، وإذا صح إطلاق الحياء على الأمر بالحياء ، فيصح إطلاق عدم الحياء من الشيء على عدم الأمر به ، وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما يحتمله اللفظ من المعاني ، ليخرج ظاهره عن النصوصية ، لا على أنه يجزم بإرادة متعين منها ، إلا أن يقوم على [ ص: 140 ] ذلك دليل ، وأما قولهم " معناه إن سنة الله وشرعه أن الله لا يستحيي من الحق " ، فليس فيه تحرير بالغ ، فإنه إما أن يسند فعل الاستحياء إلى الله تعالى أو لا ، ويجعله فعلا لما لم يسم فاعله ، فإن أسند إلى الله تعالى فالسؤال باق بحاله ، وغاية ما في الباب : أنه زاد قوله " سنة الله وشرعه " وهذا لا يخلص من السؤال ، وإن بنوا الفعل لما لم يسم فاعله ، فكيف يفسر فعلا بني للفاعل ، والمعنيان متباينان ، والإشكال إنما ورد على بنائه للفاعل ؟ .

                                        الوجه الرابع : الأقرب أن يجعل في الكلام حذف ، تقديره : إن الله لا يمتنع من ذكر الحق ، و " الحق " ههنا خلاف الباطل ، ويكون المقصود من الكلام : أن يقتدى بفعل الله تعالى في ذلك ، وبذكر هذا الحق الذي دعت الحاجة إليه من السؤال عن احتلام المرأة .



                                        الوجه الخامس " الاحتلام " في الوضع : افتعال من الحلم - بضم الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم في نومه ، يقال منه حلم - بفتح اللام - واحتلم ، واحتلمت به ، واحتلمته ، وأما في الاستعمال والعرف العام : فإنه قد خص هذا الوضع اللغوي ببعض ما يراه النائم ، وهو ما يصحبه إنزال الماء ، فلو رأى غير ذلك لصح أن يقال له " احتلم " وضعا ، ولم يصح عرفا .

                                        الوجه السادس : قولها " هي " تأكيد وتحقيق ، ولو أسقطت من الكلام لتم أصل المعنى .



                                        السابع : الحديث دليل على وجوب الغسل بإنزال المرأة الماء ، ويكون الدليل على وجوبه على الرجل قوله { إنما الماء من الماء } ويحتمل أن تكون أم سليم لم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الماء من الماء " وسألت عن حال المرأة لمسيس حاجتها إلى ذلك ، ويحتمل أن تكون سمعته ، ولكنها سألت عن حال المرأة ، لقيام مانع فيها يوهم خروجها عن ذلك العموم ، وهي ندرة نزول الماء منها .



                                        الثامن : فيه دليل على أن إنزال الماء في حالة النوم موجب للغسل ، كإنزاله في حالة اليقظة .

                                        التاسع : قوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأت الماء " قد يرد به على من يزعم أن ماء المرأة لا [ ص: 141 ] يبرز ، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها ، بقوله " إذا رأت الماء " . ،



                                        العاشر : قوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأت الماء " يحتمل أن يكون مراعاة للوضع اللغوي في قولها " احتلمت " فإنا قد بينا أن " الاحتلام " رؤية المنام كيف كان وضعا ، فلما سألت " هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ " وكانت لفظة " احتلمت " عامة : خصص الحكم بما إذا رأت الماء ، أما لو حملنا لفظة " احتلمت " على المعنى العرفي : كان قوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأت الماء " كالتأكيد والتحقيق لما سبق من دلالة اللفظ الأول عليه ، ويحتمل أن يكون الإنزال الذي يحصل به الاحتلام عرفا على قسمين : تارة يوجد معه البروز إلى الظاهر ، وتارة لا ، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأت الماء " مخصصا للحكم بحالة البروز إلى الظاهر ، ويكون فائدة زائدة ، ليست لمجرد التأكيد ، إلا أن ظاهر كلام من أشرنا إليه من الفقهاء : يقتضي وجوب الغسل بالإنزال إذا عرفته بالشهوة ، ولا يوقفه على البروز إلى الظاهر ، فإن صح ذلك ، فتكون " الرؤية " بمعنى العلم هنا ، أي إذا علمت نزول الماء ، والله أعلم .

                                        " وأم سلمة " المذكورة في الحديث ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم اسمها هند بنت أبي أمية ، المعروف بزاد الراكب ، و " أم سليم بنت ملحان - بكسر الميم وسكون اللام وحاء مهملة - يقال لها : الغميصاء ، والرميصاء أيضا ، اسمها سهلة ، وقيل : رميلة ، أو رملة ، وقيل : رميثة ، وقيل : مليكة




                                        الخدمات العلمية