الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 493 ] سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن قوم منتسبين إلى المشايخ : يتوبونهم عن قطع الطريق وقتل النفس والسرقة ; وألزموهم بالصلاة ; لكنهم يصلون صلاة عادة البادية فهل يجب إقامة حدود الصلاة أم لا ؟ ومع هذا شعارهم الرفض وكشف الرءوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات .

                ثم غلب على قلوبهم حب الشيوخ .

                حتى كلما عثر أحدهم أو همه أمر استغاث بشيخه ويسجدون لهم مرة في غيبتهم ومرة في حضورهم فتارة يصادف السجود إلى القبلة وتارة إلى غيرها - حيث كان شيخه - ويزعمون هذا لله . ومنهم من يأخذ أولاد الناس حوارات برضى الوالدين وبغير رضاهم وربما كان ولد الرجل معينا لوالديه على السعي في الحلال فيأخذه ويعلمه الدروزة وينذر للموتى .

                ومنهم من يواخي النسوان فإذا نهوا عن ذلك قال : لو حصل لي أمك وأختك وأختيهما فإذا قيل : لا تنظر أجنبية .

                قال : أنظر عشرين نظرة
                ويحلفون [ ص: 494 ] بالمشايخ .

                وإذا نهوا عن شيء من ذلك .

                قال : أنت شرعي .

                فهل المنكر عليهم مأجور أم لا ؟ وهل اتخاذ الخرقة على المشايخ له أصل في الشرع أم لا ؟ وهل انتساب كل طائفة إلى شيخ معين يثاب عليه .

                أم لا ؟ وهل التارك له آثم أم لا ؟ ويقولون : إن الله يرضى لرضا المشايخ ويغضب بغضبهم ويستندون إلى قوله صلى الله عليه وسلم { المرء مع من أحب } و { أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله } فهل ذلك دليل لهم أم هو شيء آخر ؟ ومن هذه حاله هل يجوز دفع الزكاة إليه ؟ ؟

                [ ص: 497 ]

                التالي السابق


                فأجاب - قدس الله روحه - وأما كشف الرءوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات : فليس هذا من شعار أحد من الصالحين ; لا من الصحابة ولا التابعين ولا شيوخ المسلمين لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره وإنما ابتدع هذا بعد موت الشيخ أحمد بمدة طويلة ابتدعه طائفة انتسبت إليه فخالفوا طريق المسلمين وخرجوا عن حقائق الدين وفارقوا طريق عباد الله الصالحين وهم نوعان : أهل حال إبليسي .

                وأهل محال تلبيسي .

                فأما أهل " الأحوال " [ ص: 495 ] منهم : فهم قوم اقترنت بهم الشياطين كما يقترنون بإخوانهم ; فإذا حضروا سماع المكاء والتصدية أخذهم الحال فيزيدون ويرغون .

                كما يفعله المصروع .

                ويتكلمون بكلام لا يفهمونه هم ولا الحاضرون ; وهي شياطينهم تتكلم على ألسنتهم عند غيبة عقولهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع ولهم مشابهون في الهند من عباد الأصنام ومشابهون بالمغرب يسمى أحدهم المصلي ; وهؤلاء الذين في المغرب من جنس الزط الذين لا خلاق لهم ; فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئا فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي ويحرقون ويوقدون نارا عظيمة مؤججة ويضعون فيها الحديد العظيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحا فيها أسنة ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس ويأخذ ذلك الحديد المحمي ويمره على يديه وأنواع ذلك .

                ويرى الناس حجارة يرمى بها ولا يرون من رمى بها وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك كالمصروع الذي يضرب ضربا وجيعا وهو لا يحس بذلك ; لأن الضرب يقع على الجني فكذا حال أهل الأحوال الشيطانية ولهذا كلما كان الرجل أشبه بالجن والشياطين كان حاله أقوى ولا يأتيهم الحال إلا عند مؤذن الشيطان وقرآنه فمؤذنه المزمار وقرآنه الغناء .

                [ ص: 496 ] ولا يأتيهم الحال عند الصلاة والذكر والدعاء والقراءة فلا لهذه الأحوال فائدة في الدين ولا في الدنيا ولو كانت أحوالهم من جنس عباد الله الصالحين وأولياء الله المتقين لكانت تحصل عندما أمر الله به من العبادات الدينية ولكان فيها فائدة في الدين والدنيا لتكثير الطعام والشراب عند الفاقات واستنزال المطر عند الحاجات والنصر على الأعداء عند المخافات وهؤلاء أهل الأحوال الشيطانية في التلبيس يمحقون البركات ويقوون المخافات ويأكلون أموال الناس بالباطل لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ولا يجاهدون في سبيل الله بل هم مع من أعطاهم وأطعمهم وعظمهم وإن كان تتريا ; بل يرجحون التتر على المسلمين ويكونون من أعوانهم ونصرائهم الملاعين وفيهم من يستعين على الحال بأنواع من السحر والشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله .

                وأما أهل " المحال " منهم : فهم يصنعون أدوية كحجر الطلق ودهن الضفادع وقشور النارنج ونحو ذلك .

                يمشون بها على النار ويمسكون نوعا من الحيات يأخذونها بضعة ويقدمون على أكلها بفجور وما يصنعونه من السكر واللاذن وماء الورد وماء الزعفران والدم فكل ذلك حيل وشعوذة يعرفها الخبير بهذه الأمور .

                ومنهم من تأتيه الشياطين وذلك هم أهل المحال الشيطاني .



                [ ص: 497 ] فصل وأما ما ذكروا من غلوهم في الشيوخ : فيجب أن يعلم أن الشيوخ الصالحين الذين يقتدى بهم في الدين هم المتبعون لطريق الأنبياء والمرسلين كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ومن له في الأمة لسان صدق - وطريقة هؤلاء دعوة الخلق إلى الله وإلى طاعته وطاعة رسوله واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

                والمقصود أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا .

                فإن الله تعالى يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } .

                والرسل أمروا الخلق أن لا يعبدوا إلا الله وأن يخلصوا له الدين فلا يخافون غيره ولا يرجون سواه ولا يدعون إلا إياه . قال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } [ ص: 498 ] فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده .

                وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فالإيتاء لله والرسول : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } والحلال ما حلله رسول الله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعته وشريعته ومن لم يقر به باطنا وظاهرا فهو كافر مخلد في النار .

                وخير الشيوخ الصالحين وأولياء الله المتقين : أتبعهم له وأقربهم وأعرفهم بدينه وأطوعهم لأمره : كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي .

                وسائر التابعين بإحسان وأما الحسب فلله وحده ولهذا قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ولم يقولوا ورسوله .

                كما قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي : أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين .

                فهو وحده يكفيهم فإنه سبحانه له الملك وله الحمد وهو كاف عبده .

                كما قال تعالى : { أليس الله بكاف عبده } وقال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } الآية .

                [ ص: 499 ] { وروي أن بعض الصحابة قال : يا رسول الله هل ربنا قريب فنناجيه ؟ أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية } فهو سبحانه سميع قريب مجيب رحيم وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وهو يعلم من أحوال العباد ما لا يعلمه غيره ويقدر على قضاء حوائجهم التي لا يقدر عليها غيره ويرحمهم رحمة لا يرحمهم بها غيره .

                والشيوخ الذين يقتدى بهم يدلون عليه ويرشدون إليه بمنزلة الأئمة في الصلاة يصلون ويصلي الناس خلفهم وبمنزلة الدليل الذي للحاج هو يدلهم على البيت وهو وهم جميعا يحجون إليه ليس لهم من الإلهية نصيب ; بل من جعل لهم شيئا من ذلك فهو من جنس النصارى المشركين الذين قال الله في حقهم : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقد قال نوح عليه السلام { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } وهكذا أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول .

                فليس لأحد أن يدعو شيخا ميتا أو غائبا ; بل ولا يدعو ميتا ولا غائبا : لا من الأنبياء ولا غيرهم فلا يقول لأحدهم : يا سيدي فلان أنا في حسبك أو في جوارك ولا يقول : بك أستغيث وبك أستجير ولا يقول : إذا عثر : يا فلان ولا يقول : محمد وعلي ولا الست نفيسة [ ص: 500 ] ولا سيدي الشيخ أحمد ولا الشيخ عدي ولا الشيخ عبد القادر ولا غير ذلك ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب ومسألته والاستغاثة به والاستنصار به بل ذلك من أفعال المشركين وعبادات الضالين .

                ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في صحيح البخاري { أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس .

                وقال اللهم إنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا . وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا فيسقون } فكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم كما يتوسل به الناس يوم القيامة ويستشفعون به إلى ربهم فيأذن الله له في الشفاعة فيشفع لهم .

                ألا ترى الله يقول { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } .

                وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فبين سبحانه أن المخلوقات كلها ليس لأحد منها شيء في الملك ولا له شريك فيه ولا له ظهير أي : معين لله تعالى كما تعاون الملوك وبين أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا لمن أذن له .

                { وإذا كان يوم القيامة يجيء الناس إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فيطلبون الشفاعة منهم فلا يشفع لهم أحد من هؤلاء الذين هم سادة الخلق حتى يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم .

                [ ص: 501 ] فيأتي ربه فيحمده بمحامد ويسجد له فإذا أذن له في الشفاعة شفع لهم } .

                فهذه حال هؤلاء الذين هم أفضل الخلق ; فكيف غيرهم ؟ فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يدعونه ولا يستغيثون به ولا يطلبون منه شيئا لا عند قبره ولا بعيدا من قبره ; بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين فإنه صلى الله عليه وسلم قال : { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم .

                فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله
                } وقال : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } وقال : { لا تتخذوا قبري عيدا .

                وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني
                } وقال : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا } { وقال له رجل : ما شاء الله وشئت فقال : أجعلتني لله ندا ؟ قل : ما شاء الله وحده } وقال : { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد } .

                وفي المسند { أن معاذ بن جبل سجد له .

                فقال : ما هذا يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال : يا معاذ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها
                } وقال : { يا [ ص: 502 ] معاذ أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا لقبري قال : لا قال : فإنه لا يصلح السجود إلا لله } أو كما قال .

                فإذا كان السجود لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ولا ميتا ولا لقبره فكيف يجوز السجود لغيره ؟ بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } فقد نهى عن الصلاة إليها كما نهى عن اتخاذها مساجد ولهذا لما أدخلوا حجرته في المسجد لما وسعوه جعلوا مؤخرها مسنما منحرفا عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إلى الحجرة النبوية فما الظن بالسجود إلى جهة غيره .

                كائنا من كان .

                وأما قول القائل : هذا السجود لله تعالى فإن كان كاذبا في ذلك فكفى بالكذب خزيا وإن كان صادقا في ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن السجود لا يكون إلا على الوجه المشروع وهو السجود في الصلاة وسجود السهو وسجود التلاوة وسجود الشكر على أحد قولي العلماء .

                وأما السجود عقيب الصلاة بلا سبب فقد كرهه العلماء وكذلك ما يفعله بعض المشايخ من سجدتين بعد الوتر لم يفعله أحد من السلف ولا استحبه أحد من الأئمة ولكن هؤلاء بلغهم حديث رواه أبو موسى الذي في ( الوظائف { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 503 ] يصلي سجدتين بعد الوتر } ففعلوا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه { أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس ولم يداوم على ذلك } فسميت الركعتان سجدتين .

                كما في أحاديث أخر .

                فهذا هو أصل ذلك .

                والكلام في هاتين الركعتين مذكور في غير هذا الموضع .

                وأما السجدتان فلا أصل لهما ولا للسجود المجرد بلا سبب وقالوا هو بدعة فكيف بالسجود إلى جهة مخلوق من غير مراعاة شروط الصلاة وهذا يشابه من يسجد للشرق في الكنيسة مع النصارى ويقول : لله أو يسجد مع اليهود إلى الصخرة ويقول : لله ; بل سجود النصارى واليهود لله وإن كان إلى غير قبلة المسلمين خير من السجود لغير الله .

                بل هذا بمنزلة من يسجد للشمس عند طلوعها وغروبها ويسجد لبعض الكواكب والأصنام ويقولون : لله .



                فصل وأما فساد الأولاد : بحيث يعلمه الشحاذة ويمنعه من الكسب الحلال أو يخرجه ببلاده مكشوف الشعر في الناس فهذا يستحق [ ص: 504 ] صاحبه العقوبة البليغة التي تزجره عن هذا الإفساد لا سيما إن أدخلوهم في الفواحش وغير ذلك من المنكرات ; ويجب تعليم أولاد المسلمين ما أمر الله بتعليمهم إياه وتربيتهم على طاعة الله ورسوله .

                كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع }



                فصل وأما " النذر للموتى " من الأنبياء والمشايخ وغيرهم : أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم .

                فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى .

                سواء كان النذر نفقة أو ذهبا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس ; والرهبان وبيوت الأصنام .

                وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } " وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به ; بل عليه كفارة يمين في أحد قولي العلماء وهذا إذا كان النذر لله وأما إذا كان النذر لغير الله فهو كمن يحلف بغير الله وهذا شرك .

                فيستغفر الله منه وليس في هذا وفاء ولا كفارة .

                ومن تصدق بالنقود على أهل الفقر والدين فأجره على رب العالمين .

                [ ص: 505 ] وأصل عقد النذر منهي عنه .

                كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : " { إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل } " وإذا نذر فعليه الوفاء بما كان طاعة لله كالصلاة والصدقة والصيام والحج ; دون ما لم يكن طاعة لله تعالى .



                فصل فأما مؤاخاة الرجال النساء الأجانب وخلوهم بهن ونظرهم إلى الزينة الباطنة منهن : فهذا حرام باتفاق المسلمين ومن جعل ذلك من الدين فهو من إخوان الشياطين .

                قال الله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } .

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان } وقال : { إياكم والدخول على النساء .

                قالوا : يا رسول الله : أرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت
                } " ومن لم ينته عن ذلك عوقب عقوبة بليغة تزجره وأمثاله من أهل الفساد والعناد .



                [ ص: 506 ] فصل وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشايخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة ولم ينازعوا إلا في الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .

                والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وقال : { من حلف بغير الله فقد أشرك } فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله أو بالملوك أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بالكعبة أو أبيه أو تربة أبيه أو نحو ذلك كان منهيا عن ذلك ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين .



                فصل وأما قول القائل : لمن أنكر عليه أنت شرعي .

                فكلام صحيح فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه أو لا يجب عليه اتباعه وأنا خارج عن اتباعه فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس " ثلاث معان " الشرع المنزل والشرع المؤول والشرع المبدل .

                [ ص: 507 ] فأما الشرع المنزل : فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعا له ومن لم يلتزم هذا الشرع أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل .

                وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام فهذا من قلد فيه إماما من الأئمة ساغ ذلك له ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين .

                وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة والتفاسير المقلوبة والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه والحكم بغير ما أنزل الله .

                فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه .

                وإنما حكم الحكام بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها .

                فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض .

                وإنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
                } فهذا قول إمام الحكام وسيد ولد آدم .

                [ ص: 508 ] وقال صلى الله عليه وسلم { إذا اجتهد الحاكم : فإن أصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } " وقال { القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة .

                رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار
                } " .

                ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ظانا أنه متبع للحقيقة فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل ولفظ " الحقيقة " يقال : على " حقيقة كونية " و " حقيقة بدعية " و " حقيقة شرعية " .

                ف " الحقيقة الكونية " مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه .

                وهذا مما يجب أن يؤمن به ولا يجوز أن يحتج به بل لله علينا الحجة البالغة فمن احتج بالقدر فحجته داحضة ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول .

                وأما " الحقيقة البدعية " فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد والمحبة والهوى من غير اتباع الكتاب والسنة . كطريق النصارى فهم تارة يعبدون غير الله وتارة يعبدون بغير أمر الله . كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم [ ص: 509 ] ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله .

                وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وقال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال الفضيل بن عياض : [ أخلصه وأصوبه قالوا : ] وما أخلصه وأصوبه .

                قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا .

                والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : " اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا " .

                وأما " الحقيقة الدينية " وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله مثل الإخلاص لله والتوكل على الله والخوف من الله والشكر لله والصبر لحكم الله والحب لله ورسوله والبغض في الله ورسوله ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله .

                فهذا حقائق أهل الإيمان وطريق أهل العرفان .



                [ ص: 510 ] فصل والأمر بالمعروف وهو الحق الذي بعث الله به رسوله .

                والنهي عن المنكر وهو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور بل هو من أعظم الواجبات وأفضل الطاعات ; بل هو طريق أئمة الدين ومشايخ الدين نقتدي بهم فيه .

                قال الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } وهذه الآية بها استدل المستدلون على أن شيوخ الدين يقتدى بهم في الدين فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين ولا ممن يقتدى به .



                فصل وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشايخ المريدين : فهذه ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة ولا كان المشايخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يلبسونها المريدين .

                ولكن طائفة من [ ص: 511 ] المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه وقد استدل بعضهم بأن { النبي صلى الله عليه وسلم ألبس أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ثوبا وقال لها : سنا } والسنا بلسان الحبشة الحسن .

                وكانت قد ولدت بأرض الحبشة فلهذا خاطبها بذلك اللسان واستدلوا أيضا بحديث { البردة التي نسجتها امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله إياها بعض الصحابة فأعطاه إياها وقال : أردت أن تكون كفنا لي } .

                وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه .

                فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه وأخذ ثوب من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة وليس هذا كلباس ثوب أو قلنسوة على وجه المتابعة والاقتداء ; ولكن [ يشبه ] من بعض الوجوه خلع الملوك [ التي ] يخلعونها على من يولونه كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة ; ولهذا يسمونها تشريفا .

                وهذا ونحوه غايته أن يجعل من جنس المباحات ; فإن اقترن به نية صالحة كان حسنا من هذه الجهة وأما جعل ذلك سنة وطريقا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك .

                وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين : فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن .

                كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون ; وبذلك يحصل اتباع السابقين [ ص: 512 ] الأولين بإحسان فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر .

                ولا يتعين ذلك في شخص معين ; ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها ; وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة ; فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنا بعد قرن ; وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك ; بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ولا يخص أحدا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه ويفضل من فضله الله ورسوله قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا فضل لعربي على عجمي ; ولا لعجمي على عربي ; ولا أسود على أبيض ; ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى } .



                [ ص: 513 ] فصل وأما قول القائل : أنت للشيخ فلان وهو شيخك في الدنيا والآخرة .

                فهذه بدعة منكرة من جهة أنه جعل نفسه لغير الله ومن جهة أن قوله : شيخك في الدنيا والآخرة كلام لا حقيقة له فإنه إن أراد أنه يكون معه في الجنة فهذا إلى الله لا إليه وإن أراد أنه يشفع فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى إن أذن له أن يشفع فيه وإلا لم يشفع ; وليس بقوله : أنت شيخي في الآخرة يكون شافعا له - هذا إن كان الشيخ ممن له شفاعة - فقد تقدم أن سيد المرسلين والخلق لا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة بعد امتناع غيره منها .

                وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى .

                وقول القائل : " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به " هو من كلام أهل الشرك والبهتان فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم كما قال الله تعالى : [ ص: 514 ] { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } .

                لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة } ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك ولا يستحب له ذلك بل يكره له .

                وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه فإنه يفعل الأصلح لدينه .

                وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده .

                فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة وسلوك طريق الابتداع ومفارقة السنة والاتباع فهذا مما ينهى عنه ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .



                [ ص: 515 ] فصل وأما قول القائل : إن الله يرضى لرضا المشايخ ويغضب لغضبهم .

                فهذا الحكم ليس هو لجميع المشايخ ولا مختص بالمشايخ بل كل من كان موافقا لله : يرضى ما يرضاه الله ويسخط ما يسخط الله كان الله يرضى لرضاه ويغضب لغضبه من المشايخ وغيرهم ومن لم يكن كذلك من المشايخ لم يكن من أهل هذه الصفة .

                ومنه { قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان قد جرى بينه وبين صهيب وخباب وبلال وغيرهم كلام في أبي سفيان بن حرب ; فإنه مر بهم فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها .

                فقال أتقولون هذا لكبير قريش ؟ ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : لعلك أغضبتهم يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك أو كما قال .

                قال : فخرج عليهم أبو بكر فقال لهم : يا إخواني أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أبا بكر
                } .

                فهؤلاء كان غضبهم لله .

                وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يقول [ ص: 516 ] الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به .

                وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
                } .

                فهذا المؤمن الذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله لأنه فعل ما أحبه الله والجزاء من جنس العمل .

                قال الله تعالى : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } وفي الحقيقة فالعبد الذي يرضى الله لرضاه ويغضب لغضبه هو يرضى لرضا الله ويغضب لغضب الله وليكن هذان مثالان : فمن أحب ما أحب الله وأبغض ما أبغض الله ورضي ما رضي الله لما يرضي الله ويغضب لما يغضب ; لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام بل لا بد لأكمل الخلق أن يغضب أحيانا غضب البشر ويرضى رضا البشر .

                ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { : اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس لذلك بأهل فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة } [ ص: 517 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك في قضية معينة لكون غضبه لأجل أبي سفيان وهم كانوا يغضبون لله وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك وبالجملة فالشيوخ والملوك وغيرهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله أطيعوا وإن أمروا بخلاف ذلك لم يطاعوا ; فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وليس أحد معصوما إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا في الشيخ الذي ثبت معرفته بالدين وعمله به .

                وأما من كان مبتدعا بدعة ظاهرة أو فاجرا فجورا ظاهرا .

                فهذا إلى أن تنكر عليه بدعته وفجوره أحوج منه إلى أن يطاع فيما يأمر به ; لكن إن أمر هو أو غيره بما أمر الله به ورسوله وجبت طاعة الله ورسوله فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد في كل حال ; ولو كان الآمر بها كائنا من كان .



                فصل وأما قوله صلى الله عليه وسلم " { المرء مع من أحب } " فهو من أصح الأحاديث .

                وقال أنس : فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر [ ص: 518 ] معهم وإن لم أعمل مثل أعمالهم .

                وكذلك " { أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله } " لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله فيحب أنبياء الله كلهم ; لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى فإن هؤلاء أولياء الله والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان .

                فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بالجنة وأما من لم يشهد له بالجنة .

                فقد قال طائفة من أهل العلم : لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه وقال طائفة : بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه واتفق المسلمون على الثناء عليه كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وعبد الله بن المبارك - رضي الله عنهم - وغيرهم .

                شهدنا لهم بالجنة ; لأن في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا .

                فقال : وجبت وجبت .

                قالوا : يا رسول الله ما قولك : وجبت وجبت ؟ قال : هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت : وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار .

                قيل : [ ص: 519 ] بم يا رسول الله ؟ قال : بالثناء الحسن والثناء السيئ
                } .

                وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين وعباد الله الصالحين وحزب الله المفلحين كما أن غير المشايخ فيهم هؤلاء وهؤلاء في الجنة والتجار والفلاحون وغيرهم من [ هذه ] الأصناف .

                إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالا ; بل عليه أن يأخذ بما يعلم ; فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده .

                كما قال الله تعالى : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } .

                وقال الله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وعلى هذا فمن أحب شيخا مخالفا للشريعة كان معه ; فإذا دخل الشيخ النار كان معه .

                ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة وأما من كان من أولياء الله المتقين : كأبي بكر وعمر وعثمان [ ص: 520 ] وعلي وغيرهم ; فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان ; وأعظم حسنات المتقين .

                ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله وإن لم يعلم حقيقة باطنه فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله .

                وكثير من الناس يدعي المحبة من غير تحقيق قال الله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } قال بعض السلف : ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته وترك مكروهاته والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيما فمن كان أعظم نصيبا من ذلك كان أعظم درجة عند الله .

                وأما من أحب شخصا لهواه مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه أو لحاجة يقوم له بها أو لمال يتآكله به .

                أو بعصبية فيه .

                ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله ; بل هذه محبة لهوى النفس وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان .

                وما أكثر من يدعي حب مشايخ لله ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي [ ص: 521 ] أحبهم لأجله فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير .

                وكيف يحب شخصا لله من لا يكون محبا لله وكيف يكون محبا لله من يكون معرضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيل الله .

                وما أكثر من يحب شيوخا أو ملوكا أو غيرهم فيتخذهم أندادا يحبهم كحب الله .

                والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر فأهل الشرك يتخذون أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وأهل الإيمان يحبون ذلك ; لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله ومن أحب الله أحب من يحبه ومن أحبه الله فمحبوب المحبوب محبوب ومحبوب الله يحب الله فمن أحب الله فيحبه من أحب الله .

                وأما أهل الشرك فيتخذون أندادا أو شفعاء يدعونهم من دون الله قال الله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } وقال الله تعالى : { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } { إني إذا لفي ضلال مبين } { إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال الله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون } وقال الله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } .

                والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ; ليكون الدين كله لله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " { إنا معشر الأنبياء ديننا واحد } " فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال الله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .

                ومن حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به ; فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } .

                وقال صلى الله عليه وسلم { لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن [ ص: 523 ] بي إلا دخل النار } " قال الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } .

                فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا بغيرها قال الله تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم } " وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله [ ص: 524 ] هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك .

                والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه [ بمحبته وعن رجاء ما سواه ] برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به ; ولهذا كان وسط الفاتحة { إياك نعبد وإياك نستعين } قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } قال : الله حمدني عبدي .

                فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي . وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
                } " .

                فوسط السورة { إياك نعبد وإياك نستعين } فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم : مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد : الذين يوالون [ بعض ] الشيوخ والأئمة دون البعض .

                وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان .

                قال الله تعالى { إنما المؤمنون إخوة } .

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه } - وقال { : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } .

                وقال عليه السلام { لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا } .

                ومما يبين الحب لله والحب لغير الله : أن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله .

                فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه : { وسيجنبها الأتقى } [ ص: 526 ] { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله ; بل أدخله النار ; لأنه كان مشركا عاملا لغير الله .

                وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره ; بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله .

                ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى : { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } .

                والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه .

                والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك .

                قال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير ; لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق .

                كما يقول بعضهم : إذا كانت [ ص: 527 ] لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له .

                كما وقع مثل هذا لعدد كثير .

                ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده .

                والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته .

                فهذا حرام فعله .

                ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ .

                وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير .

                فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات .

                فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام .

                [ ص: 528 ] وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .

                وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها : يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .

                فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة .

                فقال : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا : كانت شفاعة الرسول أقرب إليه .

                { قال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله } " .

                وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى .

                قال الله تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } { قل لله الشفاعة جميعا } وقال الله تعالى : { ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } وقال : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } [ ص: 529 ] { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } .

                قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله .

                فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله ; واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به ; والمؤمنون أشد حبا لله : فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم ; بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله ; وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله ; فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله ; ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين ودينهم ومحبة النصارى [ ص: 530 ] والمشركين ودينهم ويتبع أهل التوحيد والإيمان .

                ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان .

                وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } .

                وقال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال الله تعالى : { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه .




                الخدمات العلمية