الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة ثم يتوبون من قريب ، يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم .

[ ص: 89 ] وذلك هو " القريب " الذي ذكره الله تعالى ذكره فقال : ثم يتوبون من قريب .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : " بجهالة " .

فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أن عمله السوء ، هو " الجهالة " التي عناها .

ذكر من قال ذلك :

8832 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة .

8833 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن كل شيء عصي به فهو " جهالة " عمدا كان أو غيره .

8834 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

8835 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : كل من عمل بمعصية الله ، فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه .

8836 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا [ ص: 90 ] أسباط ، عن السدي : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، ما دام يعصي الله فهو جاهل .

8837 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء .

8838 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .

8839 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، قال : " الجهالة " كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها ، وقرأ : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) [ سورة يوسف : 89 ] ، وقرأ : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [ سورة يوسف : 33 ] . قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

وقال آخرون : معنى قوله : للذين يعملون السوء بجهالة ، يعملون ذلك على عمد منهم له .

ذكر من قال ذلك :

8840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : يعملون السوء بجهالة ، قال : الجهالة العمد .

[ ص: 91 ] 8841 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .

8842 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : الجهالة العمد .

وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا .

ذكر من قال ذلك :

8843 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قوله : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، قال : الدنيا كلها جهالة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها ، عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعد الله لأهلها .

وذلك أنه غير موجود في كلام العرب تسمية العامد للشيء : " الجاهل به " إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرته ، فيقال : " هو به جاهل " على معنى جهله بمعنى نفعه وضره . فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضره ، قاصدا إليه ، فغير جائز من أجل قصده إليه أن يقال " هو به جاهل " [ ص: 92 ] لأن " الجاهل بالشيء " هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه أو الذي يعلمه ، فيشبه فاعله ، إذ كان خطأ ما فعله - بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل ، فيخطئ موضع الإصابة منه ، فيقال : " إنه لجاهل به " وإن كان به عالما ، لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به .

وكذلك معنى قوله : يعملون السوء بجهالة ، قيل فيهم : يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : " أتاه بجهالة " بمعنى أنه فعل فعل الجهال به ، لا أنه كان جاهلا .

وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبا ، فلذلك قيل : " يعملون السوء بجهالة " .

قال أبو جعفر : ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول ، لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه . وذلك أنه - جل ثناؤه - قال : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب دون غيرهم . فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ، ثم تاب من قريب توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه وقوله : " باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس [ ص: 93 ] من مغربها " وخلاف قول الله عز وجل : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) [ سورة الفرقان : 70 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية