الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 115 ] القول في تأويل قوله : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يحل لكم ، أيها المؤمنون ، أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن ، وأنتم لصحبتهن كارهون ، وهن لكم طائعات ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الفاحشة " التي ذكرها الله - جل ثناؤه - في هذا الموضع .

فقال بعضهم : معناها الزنا ، وقال : إذا زنت امرأة الرجل حل له عضلها والضرار بها ، لتفتدي منه بما آتاها من صداقها .

ذكر من قال ذلك :

8893 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا أشعث ، عن الحسن في البكر تفجر قال : تضرب مائة ، وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وتأول هذه الآية : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة .

8894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني - في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة ، أخذ ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك الحدود . [ ص: 116 ] 8895 - حدثنا أحمد بن منيع قال : حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة ، فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه .

8896 - حدثنا ابن حميد قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة - في الرجل يطلع من امرأته على فاحشة ، فذكر نحوه .

8897 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، وهو الزنا ، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .

8898 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الكريم : أنه سمع الحسن البصري : إلا أن يأتين بفاحشة ، قال : الزنا . قال : وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان : فإن فعلت ، حل لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع ، تفتدي نفسها .

وقال آخرون : " الفاحشة المبينة " في هذا الموضع ، النشوز .

ذكر من قال ذلك :

8899 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، وهو البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية .

8900 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام قال : حدثنا عنبسة ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم في قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن" في قراءة ابن مسعود . قال : إذا عصتك وآذتك ، فقد حل لك [ ص: 117 ] أخذ ما أخذت منك .

8901 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مطرف بن طريف ، عن خالد ، عن الضحاك بن مزاحم : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : الفاحشة هاهنا النشوز . فإذا نشزت ، حل له أن يأخذ خلعها منها .

8902 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : هو النشوز .

8903 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء بن أبي رباح : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن : إن شئتم أمسكتموهن ، وإن شئتم أرسلتموهن .

8904 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء ، فرجع إلى النساء فقال : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، و " الفاحشة " : العصيان والنشوز . فإذا كان ذلك من قبلها ، فإن الله أمره أن يضربها ، وأمره بالهجر . فإن لم تدع العصيان والنشوز ، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية .

[ ص: 118 ] قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، أنه معني به كل " فاحشة " : من بذاء باللسان على زوجها ، وأذى له ، وزنا بفرجها . وذلك أن الله - جل ثناؤه - عم بقوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، كل فاحشة متبينة ظاهرة . فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز ، فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه ، بأي معاني الفواحش أتت ، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى ، وصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذي :

8905 - حدثني يونس بن سليمان البصري قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

[ ص: 119 ] 8906 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق . ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا ، وأن لا تعصيه في معروف ، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه ، وإنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف .

ومعلوم أن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من حقكم عليهن أن لا يوطئن [ ص: 120 ] فرشكم أحدا " إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم .

وإذ كان ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه ، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف ، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف . وإذ كان ذلك له ؛ فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ما له منعها - حقا لها واجبا عليه . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها ؛ فأخذ منها زوجها ما أعطته - أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وإذ صح ذلك ، فبين فساد قول من قال : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة منسوخ بالحدود ؛ لأن الحد حق الله - جل ثناؤه - على من أتى بالفاحشة التي هي زنا . وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها كما : عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه - حق له . وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر .

قال أبو جعفر : فمعنى الآية : ولا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا ، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم ، إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم - مبينة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عضلهن [ ص: 121 ] والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به .

واختلف القرأة في قراءة قوله : " مبينة " .

فقرأه بعضهم : " مبينة " بفتح " الياء " بمعنى أنها قد بينت لكم وأعلنت وأظهرت .

وقرأه بعضهم : " مبينة " بكسر " الياء " بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة .

وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بينة . وإذا ظهرت ، فبإظهار صاحبها إياها ظهرت . فلا تكون ظاهرة بينة إلا وهي مبينة ، ولا مبينة إلا وهي مبينة . فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية