الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع وبنتها من الرضاعة وامرأة ابنه من الرضاعة ، أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة ، أو بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها من الرضاعة ؟ فحرمه الأئمة [ ص: 496 ] الأربعة وأتباعهم ، وتوقف فيه شيخنا وقال : إن كان قد قال أحد بعدم التحريم ، فهو أقوى .

قال المحرمون : تحريم هذا يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فأجرى الرضاعة مجرى النسب وشبهها به ، فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه ، فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة ، فإذا حرمت امرأة الأب والابن وأم المرأة وابنتها من النسب حرمن بالرضاعة . وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة ، هذا تقدير احتجاجهم على التحريم . قال شيخ الإسلام : الله سبحانه حرم سبعا بالنسب وسبعا بالصهر ، كذا قال ابن عباس . قال : ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى صهرا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) ، وفي رواية : ( ما يحرم من النسب ) . ولم يقل : وما يحرم بالمصاهرة ، ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر ، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب ، والصهر قسيم النسب وشقيقه ، قال الله تعالى : ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ) [ الفرقان : 54 ] فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر ، وهما سببا التحريم ، والرضاع فرع على النسب ، ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب ، والله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة . ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح ، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر ، فلا يعتق عليه بالملك ، ولا يرثه ، ولا يستحق النفقة [ ص: 497 ] عليه ، ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت ، ولا يعقل عنه ، ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه ، ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة ، ويحرم من النسب ، والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء ، ولو ملك شيئا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك ، وإذا حرمت على الرجل أمه وبنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أم امرأته التي أرضعت امرأته ، فإنه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة ولا رضاع ، والرضاعة إذا جعلت كالنسب في حكم لا يلزم أن تكون مثله في كل حكم ، بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا فيه منها ، وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة ، كما جمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته من غيرها . وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكرا ، فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء ؛ لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما ، ليس بينهما وبين الأجنبي منهما الذي لا رضاع بينه وبينهما ولا صهر ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم .

واحتج أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته ، ولم ينكر ذلك أحد ، قال البخاري : وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة ، وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته ، وقال ابن شبرمة : لا بأس به ، وكرهه الحسن مرة ثم قال : لا بأس به . وكرهه جابر بن زيد للقطيعة وليس فيه تحريم لقوله عز وجل : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] هذا كلام البخاري .

[ ص: 498 ] وبالجملة : فثبوت أحكام النسب من وجه لا يستلزم ثبوتها من كل وجه أو من وجه آخر ، فهؤلاء نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط ، لا في المحرمية ، فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن ، بل قد أمرهن الله بالاحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع ، فقال تعالى : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) [ الأحزاب : 53 ] ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن ألبتة ، فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم ، ولا بنوهن إخوة لهم يحرم عليهن بناتهن ، ولا أخواتهن وإخوانهن خالات وأخوالا ، بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين ، وقد كانت أم الفضل أخت ميمونة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت العباس ، وكانت أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة - رضي الله عنها - تحت الزبير ، وكانت أم عائشة - رضي الله عنها - تحت أبي بكر ، وأم حفصة تحت عمر - رضي الله عنه - وليس لرجل أن يتزوج أمه ، وقد تزوج عبد الله بن عمر وإخوته وأولاد أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات ، ولو كانوا أخوالا لهن لم يجز أن ينكحوهن ، فلم تنتشر الحرمة من أمهات المؤمنين إلى أقاربهن ، وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأمة وبينهن ثبوت غيره من الأحكام .

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المحرمات : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) [ النساء : 23 ] .

ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع ، فكيف إذا قيد بكونه ابن صلب ، وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع ويوجب دخوله ، وقد ثبت في " الصحيح " : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة ؛ ليصير محرما لها ) فأرضعته بلبن أبي حذيفة زوجها ، وصار ابنها ومحرمها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان هذا الحكم مختصا بسالم أو عاما كما قالته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فبقي سالم محرما لها لكونها أرضعته وصارت أمه ، ولم يصر محرما لها لكونها امرأة أبيه من [ ص: 499 ] الرضاعة ، فإن هذا لا تأثير فيه لرضاعة سهلة له ، بل لو أرضعته جارية له أو امرأة أخرى صارت سهلة امرأة أبيه ، وإنما التأثير لكونه ولدها نفسها ، وقد علل بهذا في الحديث نفسه ، ولفظه : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أرضعيه ) فأرضعته خمس رضعات ، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة ، ولا يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة ، ومن ادعاه فهو كاذب ، فإن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا قلابة لم يكونوا يثبتون التحريم بلبن الفحل ، وهو مروي عن الزبير وجماعة من الصحابة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وكانوا يرون أن التحريم إنما هو من قبل الأمهات فقط ، فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضع من لبن الفحل ولدا له ، فإنهم لا يحرموا عليه امرأته ، ولا على الرضيع امرأة الفحل بطريق الأولى ، فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من الرضاعة ، ولا ابنه من الرضاعة .

فإن قيل : هؤلاء لم يثبتوا البنوة بين المرتضع وبين الفحل فلم تثبت المصاهرة ؛ لأنها فرع ثبوت بنوة الرضاع ، فإذا لم تثبت له لم يثبت فرعها ، وأما من أثبت بنوة الرضاع من جهة الفحل كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وقال به جمهور أهل الإسلام ، فإنه تثبت المصاهرة بهذه البنوة ، فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل : إن زوجة أبيه وابنه من الرضاعة لا تحرم ؟

قيل : المقصود أن في تحريم هذه نزاعا ، وأنه ليس مجمعا عليه ، وبقي النظر في مأخذه ، هل هو إلغاء لبن الفحل ، وأنه لا تأثير له ، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرضاع ، وأنه لا تأثير لها ، وإنما التأثير لمصاهرة النسب ؟

ولا شك أن المأخذ الأول باطل ؛ لثبوت السنة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل ، وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثبات المصاهرة به إلا بالقياس ، وقد تقدم أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع ، وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب ثبوت حكم آخر .

[ ص: 500 ] ويدل على هذا أيضا أنه سبحانه لم يجعل أم الرضاع وأخت الرضاعة داخلة تحت أمهاتنا وأخواتنا ، فإنه سبحانه قال : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) [ النساء : 23 ] ثم قال : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 23 ] فدل على أن لفظ أمهاتنا عند الإطلاق : إنما يراد به الأم من النسب ، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : ( وأمهات نسائكم ) مثل قوله : ( وأمهاتكم ) إنما هن أمهات نسائنا من النسب فلا يتناول أمهاتهن من الرضاعة ، ولو أريد تحريمهن لقال : وأمهاتهن اللاتي أرضعنهن كما ذكر ذلك في أمهاتنا ، وقد بينا أن قوله : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ، ولا يدل على أن من حرم عليه بالصهر أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرضاعة ، بل يدل مفهومه على خلاف ذلك مع عموم قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء 24 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية