الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل ، نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم . بقي في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب ؛ يروى عن مقاتل أنه قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة : ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) [البقرة : 231] يعني مواعظ القرآن ، وفي النساء : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) [النساء : 113] يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم ، ومنه قوله تعالى : ( وآتيناه الحكم صبيا ) [مريم : 12] وفي لقمان : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) [لقمان : 12] يعني الفهم والعلم ، وفي الأنعام : ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم ) [الأنعام : 89] يعني النبوة ، وفي ص : ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) [ص : 20] يعني النبوة ، وفي البقرة : ( وآتاه الله الملك والحكمة ) [البقرة : 251] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) [النحل : 125] .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي هذه الآية : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم ، قال تعالى : ( وما أوتيتم من العلم ) [ ص: 60 ] ( إلا قليلا ) [الإسراء : 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا ، فقال : ( قل متاع الدنيا قليل ) [النساء : 77] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير ، والبرهان العقلي أيضا يطابقه ؛ لأن الدنيا متناهية المقدار ، متناهية المدة ، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها ، والسعادة الحاصلة منها ، وذلك ينبئك على فضيلة العلم ، والاستقصاء في هذا الباب قد مر في تفسير قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) [البقرة : 31] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها : إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ، ومدار هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " . واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين ، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق ، وبالثاني إلى فعل العدل والصواب ، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله : ( رب هب لي حكما ) [الشعراء : 83] وهو الحكمة النظرية ( وألحقني بالصالحين ) [الشعراء : 83] الحكمة العملية ، ونادى موسى عليه السلام فقال : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) [طه : 14] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( فاعبدني ) [طه : 14] وهو الحكمة العملية ، وقال عن عيسى عليه السلام أنه قال : ( إني عبد الله ) [مريم : 30] الآية ، وكل ذلك للحكمة النظرية ، ثم قال : ( ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) [مريم : 31] وهو الحكمة العملية ، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [محمد : 19] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( واستغفر لذنبك ) [محمد : 19] وهو الحكمة العملية ، وقال في جميع الأنبياء : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا ) [النحل : 2] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( فاتقون ) [النحل : 2] وهو الحكمة العملية ، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين ، قال أبو مسلم : الحكمة فعلة من الحكم ، وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي ، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ، ويقال : أمر حكيم ، أي : محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، قال الله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) [الدخان : 4] وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرئ " ومن يؤتي الحكمة " بمعنى : ومن يؤته الله الحكمة ، وهكذا قرأ الأعمش .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ، لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهر ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسية ثابتا من غيرهم ، وبتقدير مقدر من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق ، فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة والقرآن ، أو قوة الفهم والحسية على ما هو قول الربيع بن أنس ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات ، وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء ، فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء ، أو [ ص: 61 ] بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار ، مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الألطاف ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره ، كان من أولي الألباب ؛ لأنه لم يقف عند المسببات ، بل ترقى منها إلى أسبابها ، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب ، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه ، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها ، كان من الظاهريين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب . وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل ، قالوا : هذه الحكمة لا تقوم بنفسها ، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر ، فيعرف ما له وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية