الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )

                          هذه الآية الثالثة مما قفى به على النداء الثالث لبني آدم ، ووجه وصلها بما قبلها أنه تعالى قد بين في الثانية مجامع المحرمات على بني آدم ، وهي أصول المفاسد والمضار الشخصية والاجتماعية ، في إثر إباحة أصول المنافع من الزينة والطيبات النافعة لهم ، أو إيجابها بشرط عدم الإسراف فيها - وسبق هذه وتلك ما قفى به على النداء الثاني من بيان أصل الأصول لما أمر الله تعالى به عباده على ألسنة رسله ، وهو القسط والعدل في الآداب والأعمال ، وعبادة الله وحده بالإخلاص له في الدين وعقيدة البعث - ولما وصل ما هنالك بقسم الناس إلى فريقين [ ص: 358 ] مهتدين وضالين - وصل ما هنا ببيان عاقبة الأمم في قبول هذه الأصول أو ردها ، والاستقامة على طريقتها بعد القبول أو الزيغ عنها ، فقال عز وجل :

                          ( ولكل أمة أجل ) هذا معطوف على مقول القول في الآية السابقة ، أي قل أيها الرسول : ( إنما حرم ربي الفواحش ) إلخ دون ما حرمتم من النعم والمنافع بأهوائكم وجهالاتكم - وقل : ( ولكل أمة أجل ) أي أمد مضروب لحياتها ، مقدر فيما وضع الخالق سبحانه من السنن لوجودها ، وهو على نوعين :

                          أحدهما : أجل من يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود ، ويقترحون عليهم الآيات فيعطونها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها فيكذبون فيهلكون ، وبهذا هلك أقوام نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم . وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم ، وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) لكن انتهاءه عند الله لا يمنع جعله إنذارا لقومه خاصة بهلاكهم إن أعطوا ما اقترحوه من الآيات إرضاء لعنادهم ، ليعلم أهل البصيرة بعد ذلك أن منعهم إياه إنما كان رحمة بهم وبغيرهم .

                          وقد مضت سنة الله في الأمم أن الجاحدين الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها ، ولأجل هذا لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه منها ، كما تقدم بيانه في سورة الأنعام وتفسيرها ، وهذا الأجل لم يكن يعلمه أحد إلا بعد أن يبينه تعالى على ألسنة الرسل .

                          والنوع الثاني : الأجل المقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة بالاستقلال ، التي تنتهي بالشقاء والمهانة أو الاستعباد والاستذلال ، إن لم تنته بالفناء والزوال ، وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمران ، وأسبابه محصورة في مخالفة هدي الآيات التي قبل هذه الآية ، بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات ، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس ، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل بها من سلطان ، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من الأحكام ، تحكما من رؤساء الدين عن تقليد أو اجتهاد . وذلك قوله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( 13 : 11 ) .

                          فما من أمة من الأمم العزيزة السعيدة ، ارتكبت هذه الضلالات والمفاسد المبيدة ، إلا سلبها الله سعادتها وعزها ، وسلط عليها من استذلها وسلب ملكها ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) ( 11 : 102 ) .

                          وأمامنا تاريخ اليهود والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ، منهم من سلب ملكه كله ، ومنهم من سلب بعضه أو أكثره ، ومن لم يرجع إلى رشده ، فإنه يسلب ما بقي له منه .

                          [ ص: 359 ] وهذا النوع من آجال الأمم - وإن عرفت أسبابه وسننه - لا يمكن لأحد أن يحدده بالسنين والأيام ، وهو محدد في علم الله تعالى بالساعات ، ولذلك قال : ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) الساعة : في اللغة عبارة عن أقل مدة من الزمن ، والساعة الفلكية اصطلاح ، وهي جزء من 24 جزء من مجموع الليل والنهار . أي فإذا جاء أجل كل أمة كان عقابهم فيه لا يتأخرون عنه أقل تأخر ، كما أنهم لا يتقدمون عنه إذا لم يجيء ، أو لا يملكون طلب تأخيره كما أنهم لا يملكون طلب تقديمه ، وقد قالوا : إن " استقدم " ورد بمعنى قدم وأقدم وتقدم كما ورد " استجاب " بمعنى أجاب ، ومثله " استأخر " ، ولا يمنع هذا كون الأصل في السين والتاء للطلب أو مظنة للطلب ، والطلب قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل ، فمن أتى سبب الشيء كان طالبا له بالفعل ، وإن كان غافلا عن استتباعه له ، فالأمة التي ترتكب أسباب الهلاك تكون طالبة له بلسان حالها واستعدادها ولابد أن يأتيها ؛ لأن هذا الطلب هو الذي لا يرد . ومفهوم الشرط هنا أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيء أجله ، أي قبل أن تغلبها على نفسها وعلى إرادتها أسباب الهلاك ، ذلك بأن تترك الفواحش والآثام ، والظلم والبغي ، والفساد في الأرض ، والإسراف في الترف المفسد للأخلاق ، وخرافات الشرك المفسدة للعقول والأعمال ، وكذا التكاليف التقليدية بتكثير ما ابتدع من العبادات والمحرمات ، التي لم يخاطب الرب بها العباد . والمراد : أن يكون الغالب على الأمة الصلاح لإصلاح جميع الأفراد .

                          فإن قيل : إنه قد جاء معنى هذه الآية بالجزم ، وغير مشروط بهذا الشرط ، في قوله تعالى من سورة الحجر : ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ( 15 : 4 ، 5 ) قلنا : إن امتناع السبق والتأخر أو طلبه والسعي له هنا إنما هو بالنسبة إلى ما علمه الله تعالى وأثبته في كتاب مقادير العالم ، فإن علمه تعالى لا يتغير ، وسننه لا تتبدل ولا تتحول ، ولذلك يمتنع التأخير أو طلبه من طريق أسبابه إذا جاء الأجل بالفعل ، ولهذا أمثلة كثيرة في الحسن ، منها ما يمكن ضبطه بالتحديد ، ومنها ما يعلم بالتقريب . كقوة الحرارة وتأثيرها في الأجسام . وقوة المواد الضاغطة وما يترتب عليها من الانفجار ، كل منهما يضبط بحساب معلوم . ومنها مقدار الماء الذي يمسك وراء السدود كخزان أسوان . فقوة السد ومقادير الماء وقوة ضغطه مقدرة بحساب . وكذا الماء والوقود الذي تسير به مراكب البر والبحر . والغاز المحرك للطيارات والمناطيد في الجو ، يمكن العلم بما تحتاج إليه كل مسافة منه ، والجزم بوقوف هذه المراكب بعد نفاده في الوقت المقدر له ، وكل عمل منظم بعلم صحيح ، يأتي فيه مثل هذا التقدير ، ويكون ضبطه وتحديده بقدر إحاطة العلم به ، مثل درجات الحرارة والرطوبة وسنن الضغط والجذب ، ككون جاذبية الثقل على نسبة [ ص: 360 ] مربع البعد . ومما يكون التقدير فيه بالتقريب ، فيخطئ فيه المقدر ويصيب ، تقدير سير الأمراض المعروفة كالسل الرئوي ، فإن له درجات يسرع قطع المسلول لها ويبطئ بقدر قوة المناعة والمقاومة في جسمه وطرق المعالجة والتغذية والرياضة وما يتعلق بها من جودة الهواء وأشعة الشمس . وكم من مرض اتفق الأطباء على إمكان الشفاء منه قبل وصوله إلى الدرجة التي لا تنفع معها المعالجة وهم مصيبون في ذلك ، كالسرطان الذي يمكن استئصاله بعملية جراحية في وقت قريب ويتعذر في آخر .

                          وكذلك شأن الأمم ، قد يبلغ فيها الفساد درجة تستعصي فيها معالجته على أطباء الاجتماع ، ولكنها إذا تنبهت قبل انتشار الفساد فيها ، وتبريحه بزعمائها ودهمائها ، فقد يمكن أن يظهر فيها من أفراد المصلحين أو جماعاتهم من ينقذها فيرشدها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد فيغير الله ما بها ، وهو من استئخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجيء أجلها .

                          وقد سبق حكيمنا العربي ابن خلدون إلى الكلام في آجال الأمم وأعمال الدول ، وبيان ما يعرض لها من الهرم ، وكونه إذا وقع لا يرتفع ، فأصاب في بعض قوله وأخطأ في بعض ، ومما أخطأ فيه جعله عمر الدولة ثلاثة أجيال أي 120 سنة كالأجل الطبيعي للأفراد على تقدير بعض متقدمي الأطباء . ولو قال : عمر الدولة ثلاثة أيام من أيام الله . طفولية ، وبلوغ أشد ورشد ، وشيخوخة وهرم . ولم يقدرها بالسنين لسدد وقارب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية