الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم ينسبه إلى الكفر

                                                                                                                                                                                                        6277 حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم ولعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        " 9903 قوله باب من حلف بملة سوى الإسلام ) الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم ولم يجزم المصنف بالحكم هل يكفر الحالف بذلك أو لا لكن تصرفه يقتضي أن لا يكفر بذلك لأنه علق حديث من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم ينسبه إلى الكفر وتمام الاحتجاج أن يقول لكونه اقتصر على الأمر بقول لا إله إلا الله ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشهادتين والتحقيق في المسألة التفصيل الآتي وقد وصل الحديث المذكور في الباب الذي قبله وأورده في كتاب الأدب في " باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا " وقدمت الكلام عليه هناك قال ابن المنذر : اختلف فيمن قال أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار لا كفارة عليه ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق : هو يمين وعليه الكفارة قال ابن المنذر : والأول أصح لقوله " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " ولم يذكر كفارة زاد غيره ولذا قال " من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال " فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه ونقل أبو الحسن بن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للإسلام وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الإسلام إذا حنث لا تجب عليه كفارة فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لم يصرح

                                                                                                                                                                                                        " 9904 قوله حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب ) تقدم في " باب من أكفر أخاه " عن موسى بن إسماعيل عن [ ص: 547 ] وهيب كالذي هنا وقيل ذلك في " باب ما ينهى من السباب واللعن " من كتاب الأدب أيضا من طريق علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير بسنده بزيادة " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك " وسياقه أتم من سياق غيره فإن مداره في الكتب الستة وغيرها على أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك ورواه عن أبي قلابة خالد الحذاء ويحيى بن أبي كثير وأيوب فأخرجه المصنف في الجنائز من رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء فاقتصر على خصلتين الأولى من قتل نفسه بحديدة وأخرجه مسلم من طريق الثوري عن خالد ومن طريق شعبة عن أيوب كذلك وأشرت إلى رواية علي بن المبارك عن يحيى وأنه ذكر فيه خمس خصال الأربع المذكورات في الباب والخامسة التي أشرت إليها وأخرجه مسلم من طريق هشام الدستوائي عن يحيى فذكر خصلة النذر ولعن المؤمن كقتله ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ولم يذكر الخصلتين الباقيتين وزاد بدلهما ومن حلف على يمين صبر فاجرة ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة فإذا ضم بعض هذه الخصال إلى بعض اجتمع منها تسعة وتقدم الكلام على قوله ولعن المؤمن كقتله هناك والكلام على قوله ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله في " باب من أكفر أخاه " ووقع في رواية علي بن المبارك " ومن قذف " بدل " رمى " وهو بمعناه وأما قوله : ومن حلف بغير ملة الإسلام " فوقع في رواية علي بن المبارك " من حلف على ملة غير الإسلام " وفي رواية مسلم من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال " قال ابن دقيق العيد : الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله والرحمن وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحنث والمنع وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله " كاذبا متعمدا " والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى وهذا بخلاف قولنا والله وما أشهد فليس الإخبار بها عن أمر خارجي بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين أحدهما أن يتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي والثاني يتعلق بالماضي كقوله إن كان فعل كذا فهو يهودي وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه قوله " فهو كما قال " قال ابن دقيق العيد : ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم وفيه خلاف عند الحنفية لكونه يتخير معنى فصار كما لو قال هو يهودي ومنهم من قال : إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حين أقدم على الفعل وقال بعض الشافعية ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر ; لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها ؟ الثاني هو المشهور وقوله " كاذبا متعمدا " قال عياض : تفرد بزيادتها سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر وإن قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونها حقا كفر وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل . قلت وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا . ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة لرواية مسلم فعسى فإنه أخرجه من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبي قلابة وبين أن لفظ " متعمدا " لسفيان ولم ينفرد بها سفيان فقد تقدم في كتاب الجنائز من طريق يزيد بن ذريع عن خالد وكذا أخرجها النسائي من طريق محمد بن أبي عدي عن خالد ، ولهذه الخصلة في حديث ثابت بن الضحاك شاهد من حديث بريدة أخرجه النسائي وصححه من طريق الحسين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه من قال إني بريء من الإسلام فإن كان [ ص: 548 ] كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما " يعني إذا حلف بذلك وهو يؤيد التفصيل الماضي ويخصص بهذا عموم الحديث الماضي ويحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم وكأنه قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره من ترك الصلاة فقد كفر أي استوجب عقوبة من كفر وقال ابن المنذر : قوله " فهو كما قال " ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة

                                                                                                                                                                                                        قوله ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم في رواية علي بن المبارك ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة وقوله بشيء أعم مما وقع في رواية مسلم " بحديدة " ولمسلم من حديث أبي هريرة " ومن تحسى سما " قال ابن دقيق العيد : هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له مطلقا بل هي لله - تعالى - فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه قيل وفيه حجة لمن أوجب المماثلة في القصاص خلافا لمن خصصه بالمحدد ورده ابن دقيق العيد بأن أحكام الله لا تقاس بأفعاله فليس كل ما ذكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدنيا كالتحريق بالنار مثلا وسقي الحميم الذي يقطع به الأمعاء وحاصله أنه يستدل للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث وقد استدلوا بقوله - تعالى - وجزاء سيئة سيئة مثلها ويأتي بيان ذلك في كتاب القصاص والديات إن شاء الله تعالى




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية