الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 473 ] 62 - قالوا : حديث يبطله حجة العقل

        في العين والرقى

        قالوا : رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كادت العين تسبق القدر ، ودخل عليه بابني جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وهما ضارعان فقال : ما لي أراهم ضارعين ؟ قالوا : تسرع إليهما العين فقال : استرقوا لهما .

        وقد نهى في غير حديث عن الرقى ، قالوا : وكيف تعمل العين من بعد حتى تعل وتسقم ؟ هذا لا يقوم في وهم ولا يصح على نظر .

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا قائم في الوهم صحيح في النظر من جهة الديانة ، ومن جهة الفلسفة التي يرتضون بها ويردون الأمور إليها والناس يختلفون في طبائعهم ، فمنهم من تضر عينه إذا أصاب بها ، ومنهم من لا تضر عينه ، [ ص: 474 ] ومنهم من يعض فتكون عضته كعضة الكلب الكلب في المضرة ، أو كنهشة الأفعى لا يسلم جريحها ومنهم من تلسعه العقرب ، فلا تؤذيه وتموت العقرب ، وقد جيء إلى المتوكل بأسود من بعض البوادي يأكل الأفاعي وهي أحياء ، ويتلقاها بالنهش من جهة رءوسها ، ويأكل ابن عرس وهو حي ويتلقاه بالأكل من جهة رأسه .

        وأتي بآخر يأكل الجمر كما يأكله الظليم فلا يمضه ولا يحرقه ، وفقراء الأعراب الذين يبعدون عن الريف يأكلون الحيات وكل ما دب ودرج من الحشرات ، ومنهم من يأكل الأبارص ، ولحمها أقتل من الأفاعي والتنين .

        وأنشد أبو زيد :


        والله لو كنت لهذا خالصا لكنت عبدا يأكل الأبارصا



        فأخبرك أن العبيد يأكلونها ، فما الذي ينكر من أن يكون في الناس ذو طبيعة في نفسه ذات سم وضرر ، فإذا نظر بعينه فأعجبه ما يراه فصل من عينه في الهواء شيء من [ ص: 475 ] تلك الطبيعة ، أو ذلك السم حتى يصل إلى المرئي فيعله ، وقد زعم صاحب المنطق أن رجلا ضرب حية بعصا فمات الضارب ، وإن من الأفاعي ما ينظر إلى الإنسان فيموت الإنسان بنظره ، وما يصوت فيموت السامع بصوته ، فهذا قول أهل الفلسفة .

        وقد حدثنا مع هذا عن النضر بن شميل ، عن أبي خيرة أنه قال : الأبتر من الحيات خفيف أزرق مقطوع الذنب ، يفر من كل أحد ، ولا يراه أحد إلا مات ، ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها ، وهو الشيطان من الحيات ، وهذا قول يوافق ما قاله صاحب المنطق .

        أفما تعلم أن هذه الحية إذا قتلت من بعد فإنما تقتل بسم فصل من عينها في الهواء حتى أصاب من رأته ، وكذلك القاتلة بصوتها تقتل بسم فصل من صوتها ، فإذا دخل السمع قتل .

        وقد ذكر الأصمعي مثل هذا بعينه في الذي يعتان .

        وبلغني عنه أنه قال : رأيت رجلا عيونا فدعي عليه فعور .

        وكان يقول : إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني .

        ومما يشبه هذا القول : أن المرأة الطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه وهي منظفة الكف والثوب فيفسد اللبن ، وهذا معروف مشهور وليس ذلك إلا لشيء فصل عنها حتى وصل إلى اللبن .

        [ ص: 476 ] وقد تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس فيه من غير أن تمسها ، وقد يفسد العجين إذا قطع في البيت الذي فيه البطيخ .

        وناقف الحنظل تدمع عيناه ، وكذلك موخف الخردل وقاطع البصل ، وقد ينظر الإنسان إلى العين المحمرة فتدمع عينه ، وربما احمرت وليس ذلك إلا لشيء وصل في الهواء إليها من العين العليلة ، وقد يتثاءب الرجل فيتثاءب غيره . والعرب تقول : أسرع من عدوى الثؤباء .

        وما أكثر ما يختدع الراقون بالتثاؤب ، فإنهم إذا رقوا عليلا تثاءبوا فتثاءب العليل بتثاؤبهم ، وأكثروا وأكثر ، فيوهمون العليل أن ذلك فعل الرقية ، وأنه تحليل منها للعلة ، وقد يكون في الدار جماعة من الصبيان ويجدر أحدهم فيجدر الباقون ، وليس ذلك إلا لشيء فصل من العليل في الهواء إلى من كان مثله ممن لم يجدر قط ، وليس هو من العدوى في شيء ، إنما هو سم ينفذ من واحد إلى آخر ، وهذا من أمر العين صحيح .

        وأما ما يدعيه قوم من الأعراب أن العائن منهم يقتل من أراد ويسقم من أراد بعينه ، وأن الرجل منهم كان يقف على مخرفة النعم ، وهو طريقها إلى الماء فيصيب ما أراد من تلك الإبل بعينه حتى يقتله ، فهذا ليس بصحيح .

        وقد قال الفراء في قول الله سبحانه : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر .

        [ ص: 477 ] أراد يعتانونك أي : يصيبونك بعيونهم كما يعتان الرجل الإبل إذا صدرت عن الماء ، وليس هو عندنا على ما تأول ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك بالعداوة والبغضاء نظرا يكاد يزلقك من شدته حتى تسقط ، ويدلك على ذلك قول الشاعر :


        يتقارضون إذا التقوا في موطن     نظرا يزيل مواطئ الأقدام



        أي : يكاد يزيلها عن مواطئها من شدته وصلابته ، وهذا نظر العدو المبغض .

        تقول الناس : نظر إلي شزرا ، ونظر إلي محدقا ، وأريته لمحا باصرا .

        ونحوه قول الله تعالى : ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ؛ لأن المغشي عليه عند الموت يشخص بصره ولا يطرف ، ويقول الله - جل وعز - : " فإذا برق البصر " ، في قراءة من قرأه بفتح الراء يريد بريقه .

        [ ص: 478 ] ولو كان ما ادعاه الأعراب من ذلك صحيحا ، لأمكنهم قتل من أرادوا قتله ، وإسقام من أرادوا إسقامه ، ولم يجعل الله سبحانه هذا لأحد على أحد .

        وأحسب أن العين إذا خاف أن يصيب الآخر بعينه إذا أعجبه ؛ أردفها التبريك والدعاء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا أعجب أحدكم أخوه فليبرك عليه .

        وإنما يصح من العين أن يكون العائن يصيب بعينه إذا تعجب من شيء ، أو استحسنه فيكون الفعل لنفسه بعينه ؛ ولذلك سموا العين نفسا ؛ لأنها تفعل بالنفس .

        وجاء في الحديث : لا رقية إلا من عين أو حمة أو نملة أو نفس ، فالنفس العين ، والحمة الحيات والعقارب وأشباهها من ذوات السموم ، والنملة قروح تخرج في الجنب .

        وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للشفاء : علمي حفصة رقية النملة والنفس والعين .

        وقال ابن عباس في الكلاب : إنها من الجن وهي ضعفة الجن ، فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا لها فإن لها أنفسا . يريد أن لها عيونا تضر بنظرها إلى من يطعم بحضرتها .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية