الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث: شروط الصيغة، والعين الموقوفة

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: الشرط الأول: أن يكون الوقف مؤبدا

        (الوقف المؤقت)

        مثل أن يقول: هذا البيت وقف على طلبة العلم لمدة عام.

        اختلف العلماء في حكم هذا الوقف على أقوال: القول الأول: صحة هذا الوقف والشرط.

        وبه قال أبو يوسف من الحنفية في رواية، والمالكية، وبعض الشافعية، ووجه عند الحنابلة.

        لكن عند الحنابلة على القول بالصحة يكون كمنقطع الانتهاء. [ ص: 486 ]

        القول الثاني: فساد شرط التأقيت، وصحة الوقف.

        وبه قال بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وخص بعض الشافعية بطلان التأقيت بالجهات العامة، إلحاقا له بالعتق.

        القول الثالث: بطلان الشرط والوقف.

        وهو قول في مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية.

        وعند الشافعية: ما يضاهي التحرير كالمسجد، والمقبرة، والرباط، كقوله: جعلته مسجدا سنة، فإنه يصح مؤبدا.

        القول الرابع: وهو قول الحنفية.

        يشترط الحنفية على المعمول به لصحة الوقف أن يكون مؤبدا؛ بأن يكون آخره مشروطا صراحة أو دلالة لجهة بر لا تنقطع، غير أنهم يختلفون في اشتراط ذكر التأبيد أو ما يقوم مقامه نصا في صيغة الوقف.

        فأبو يوسف رحمه الله لا يشترط ذكر التأبيد، وإنما يشترط خلو الصيغة عما ينافيه، وهو المعتمد.

        ومحمد رحمه الله: يشترط ذلك. [ ص: 487 ]

        وعلى هذا فإذا ذكر الواقف جهة بر دائمة كالفقراء انصرف إليها بالاتفاق.

        وإذا ذكر أناسا معينين، وشرط انصراف الوقف بعدهم لجهة بر دائمة كالفقراء صح الوقف بالاتفاق.

        أدلة من قال بصحة الوقف المؤقت:

        استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - عموم أدلة مشروعية الوقف.

        وهذه تشمل الوقف المؤقت.

        2 - أدلة صحة الشرط في الوقف.

        وهذه بعمومها تشمل اشتراط الواقف كون الوقف مؤقتا.

        3 - أدلة اشتراط رضا الواقف.

        والواقف لم يرض بإخراج ملكه وقفا إلا هذه المدة.

        (135) 4 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه قال: « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له ».

        (136) 5 - ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: « أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه ». [ ص: 488 ]

        (137) 6 - ما رواه مسلم من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وفي حديث أيوب من الزيادة قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمسكوا عليكم أموالكم ».

        (138) 3 - ما رواه مسلم من طريق أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر ولعقبه » غير أن يحيى قال في أول حديثه: « أيما رجل أعمر عمرى فهي له ولعقبه ».

        فهذه الأحاديث صريحة في صحة العمرى، وهي هبة مؤقتة، وكذا الوقف.

        8 - أن في هذا تيسيرا على الناس، وحثا لهم على التبرعات ولو تأقيتا.

        9 - لأن المتبرع محسن وليس عليه سبيل، فله شرط ما يشاء ما لم يكن فيه ضرر أو مخالفة لمقتضى الوقف أو الشرع.

        10 - الأدلة الدالة على صحة وقف الحيوان.

        وبقاء الحيوان ونحوه مؤقت.

        11 - أن الوقف من أنواع الصدقات التي تجوز مؤقتة كما تجوز مؤبدة، ولا دليل يخص الوقف بالمنع من التأقيت.

        ونوقش: بما ورد من نصوص خاصة تبين وجوب تأبيد الوقف كالأمر بتحبيس الأصل، وأنه لا يباع ولا يوهب.

        وأجيب: أن تأبيد كل شيء بحسبه كما تقدم. [ ص: 489 ]

        12 - كما يجوز توقيت انتفاع الموقوف عليهم بالعين الموقوفة أو غلتها، كذا يجوز توقيت الوقف مطلقا.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا يعد قياسا مع الفارق؛ لأن للواقف أن يقيد بشرطه مدة الانتفاع بالنسبة للموقوف عليهم، بخلاف العين الموقوفة، فلا يكون الوقف فيها إلا مؤبدا.

        الثاني: يقال أيضا بأن ما خالف مقتضى الوقف، وأصله تجب مخالفته، والحال كذلك هنا.

        13 - أن حقيقة الوقف تمليك المنفعة، والواقف له أن يقيد بشرطه وجه الانتفاع بالوقف كذلك له أن يقيد مدة الوقف.

        يناقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الواقف له أن يقيد بشرطه مدة الانتفاع بالنسبة للموقوف عليه، وهذا لا ينافي تأبيد الوقف.

        14 - أنه يجوز وقف بعض المال، فكذلك يجوز الوقف في بعض الزمان. ونوقش: قال الماوردي: « ولهذا فرقنا بين أن يقف بعض ماله فيجوز، وبين أن يقف في بعض الزمان فلا يجوز؛ لأنه ليس في وقف بعض ماله رجوع في الوقف، وفي وقفه في بعض الزمان رجوع في الوقف ».

        وأجيب: بأن الرجوع في الوقف سائغ بشرطه كما حررته في موضعه.

        واستدل من قال بصحة الوقف وبطلان الشرط:

        1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما في وقف عمر رضي الله عنه السابق.

        وجه الدلالة منه: أنه دل على لزوم الوقف، واللزوم ينافي توقيته. [ ص: 490 ]

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن وقف عمر يدل على اللزوم إذا لم يكن هناك شرط من الواقف لوجوب اتباع شرطه.

        2 - القياس على العتق، فكما أن العتق لا يجوز تعليق انتهائه على شرط، فكذلك الوقف لجامع أنهما إسقاطان للملك.

        ونوقش بالفرق؛ إذ التأقيت ممكن في الوقت بخلافه في العتق.

        3 - القياس على الهبة، فكما أنه لا يجوز تعليق انتهائها على شرط، فكذلك الوقف بجامع أن كلا منهما إخراج مال على وجه القربة.

        ونوقش: بعدم التسليم المقيس عليه موضع خلاف بين العلماء.

        فهذه التعليلات تدل على عدم جواز تعليق انتهاء الوقف إلا أنه لا يلزم منها بطلان الوقف؛ لأنه لازم بمجرد التلفظ به قبل ورودها عليه، وعليه فيصح الوقف ويبطل الشرط.

        واستدل من قال بالبطلان:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - حديث عمر رضي الله عنه السابق.

        وجه الدلالة: دل الحديث على أن الوقف أساسه البقاء؛ ليكون صدقة جارية، وهذا لا يكون إلا بالتأبيد.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أنه لا دليل فيه على شرط التأبيد.

        الوجه الثاني: أنه لو دل، فغيره من الأدلة دلت على جواز المؤقت.

        2 - أن المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم من تأبيد الوقف.

        ونوقش: بأن ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم من تأبيد الوقف، إنما هي حكاية [ ص: 491 ] وقائع كان الوقف فيها مؤبدا، وهذا هو ما ارتضوه في صدقاتهم، وليس فيه دليل على المنع من التأقيت في الوقف.

        3 - أنه إخراج مال على وجه القربة، فلم يجز إلى مدة كالصدقة.

        ونوقش: بأنه قياس مقابل بمثله.

        4 - أن الموقوف يخرج عن ملك واقفه إلى حكم ملك الله تعالى، وعليه فلا يصح التصرف فيه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن خروج الوقف إلى ملك الله تعالى لا يمنع من تأقيته.

        5 - قياس الوقف على العتق بجامع أن كلا منهما إسقاط للملك، وكذا فإن الهبات لا رجوع فيها.

        وسبق مناقشة القياس على العتق.

        6 - القياس على وقف المسجد، فكما تجب إقامته على التأبيد، ولا يجوز الرجوع عنه، فكذا وقف غير المسجد.

        ونوقش: بعدم تسليم الأصل المقيس عليه.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - صحة الوقف المؤقت؛ إذ الأصل أن الوقف فعل خير وقربة إلى الله، فلا يمنع إلا لدليل بين.

        * * * [ ص: 492 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية