الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الرابع : المتوفى عنها زوجها فبين عدتها - سبحانه - بقوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] ، فهذا يتناول المدخول بها وغيرها ، والصغيرة والكبيرة ، ولا تدخل فيه الحامل ؛ لأنها خرجت بقوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فجعل وضع حملهن جميع أجلهن ، وحصره فيه ، بخلاف قوله في المتوفى عنهن : يتربصن فإنه فعل مطلق لا عموم له ، وأيضا فإن قوله : [ ص: 529 ] ( أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] متأخر في النزول عن قوله : ( يتربصن ) وأيضا فإن قوله : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] في غير الحامل بالاتفاق ، فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته ، فعمومها مخصوص اتفاقا ، وقوله : ( أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] غير مخصوص بالاتفاق ، هذا لو لم تأت السنة الصحيحة بذلك ، ووقعت الحوالة على القرآن ، فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك ، مقررة له .

فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة ، ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك ، وقد دلت السنة بحمد الله على مراد الله منها ، ونحن نذكرها ونذكر أولى المعاني وأشبهها بها ، ودلالة السنة عليها .

فمن ذلك اختلاف السلف في المتوفى عنها إذا كانت حاملا ، فقال علي ، وابن عباس ، وجماعة من الصحابة : أبعد الأجلين من وضع الحمل ، أو أربعة أشهر وعشرا ، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله اختاره سحنون . قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه : علي بن أبي طالب وابن عباس يقولان في المعتدة الحامل : أبعد الأجلين ، وكان ابن مسعود يقول : من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد ، وحديث سبيعة يقضي بينهم " إذا وضعت ، [ ص: 530 ] فقد حلت " .

وابن مسعود يتأول القرآن : ( أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] هي في المتوفى عنها ، والمطلقة مثلها إذا وضعت ، فقد حلت ، وانقضت عدتها ، ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقه ، فإذا بان له يد أو رجل ، عتقت به الأمة ، وتنقضي به العدة ، وإذا ولدت ولدا وفي بطنها آخر ، لم تنقض العدة حتى تلد الآخر ، ولا تغيب عن منزلها الذي أصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرا إذا لم تكن حاملا ، والعدة من يوم يموت أو يطلق ، هذا كلام أحمد .

وقد تناظر في هذه المسألة : ابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهما ، فقال أبو هريرة : عدتها وضع الحمل ، وقال ابن عباس : تعتد أقصى الأجلين ، فحكما أم سلمة رضي الله عنها ، فحكمت لأبي هريرة ، واحتجت بحديث سبيعة .

وقد قيل : إن ابن عباس رجع .

وقال جمهور الصحابة ومن بعدهم ، والأئمة الأربعة : إن عدتها وضع الحمل ، ولو كان الزوج على مغتسله فوضعت ، حلت .

قال أصحاب الأجلين : هذه قد تناولها عمومان ، وقد أمكن دخولها في كليهما ، فلا تخرج من عدتها بيقين حتى تأتي بأقصى الأجلين ، قالوا : ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى ، لأن كل آية عامة من وجه ، خاصة من وجه ، قالوا : فإذا أمكن دخول بعض الصور في عموم الآيتين ، يعني إعمالا للعموم في مقتضاه .

فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما .

[ ص: 531 ] والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة .

أحدها : أن صريح السنة يدل على اعتبار الحمل فقط ، كما في " الصحيحين " : أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى ، فوضعت ، فأرادت أن تنكح ، فقال لها أبو السنابل : ما أنت بناكحة حتى تعتدي آخر الأجلين ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كذب أبو السنابل ، قد حللت فانكحي من شئت " .

الثاني أن قوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] نزلت بعد قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] وهذا جواب عبد الله بن مسعود ، كما في " صحيح البخاري " عنه : أتجعلون عليها التغليظ ، ولا تجعلون لها الرخصة ، أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] .

وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير ، فإن ظاهره أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة لتأخرها عنها ، فكانت ناسخة لها ، ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعم منه عند المتأخرين ، فإنهم يريدون به ثلاثة معان .

أحدها : رفع الحكم الثابت بخطاب .

الثاني : رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص ، وإما بتقييد ، وهو أعم مما قبله .

الثالث : بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج ، وهذا أعم من المعنيين [ ص: 532 ] الأولين ، فابن مسعود رضي الله عنه أشار بتأخر نزول سورة الطلاق ، إلا أن آية الاعتداد بوضع الحمل ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادا ، أو مخصصة لها إن لم يكن عمومها مرادا ، أو مبينة للمراد منها ، أو مقيدة لإطلاقها ، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ، ورسوخه في العلم ، ومما يبين أن أصول الفقه سجية للقوم ، وطبيعة لا يتكلفونها ، كما أن العربية والمعاني والبيان وتوابعها لهم كذلك ، فمن بعدهم فإنما يجهد نفسه ليتعلق بغبارهم وأنى له ؟ !

الثالث : أنه لو لم تأت السنة الصريحة باعتبار الحمل ، ولم تكن آية الطلاق متأخرة ، لكان تقديمها هو الواجب لما قررناه أولا من جهات العموم الثلاثة فيها ، وإطلاق قوله ( يتربصن ) ، وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنة ، ولكن لغموضه ودقته على كثير من الناس ، أحيل في ذلك الحكم على بيان السنة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية