الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية : نص في تحقيق الكفر ، وذلك أن نقول : الكفر والإيمان أصلان في ترتيب الأحكام عليهما في الدين ، وهما في وضع اللغة معلومان .

                                                                                                                                                                                                              والإيمان هو التصديق لغة أو التأمين . والكفر هو الستر ، وقد يكون بالفعل حسا ، وقد يكون بالإنكار والجحد معنى ، وكلاهما حقيقة ، أو حقيقة ومجاز ، حسبما بيناه في الأمد الأقصى " وغيره . وقد قال شيخ السنة والقاضي أبو بكر : إن الإيمان هو العلم بالله ، وذلك لا يصح لغة ، وقد أفدناه في موضعه .

                                                                                                                                                                                                              فإذا ثبت أن كفر المعاني جحودها وإنكارها فالشرع لم يعلق الأحكام الشرعية على كل ما ينطلق عليه اسم كفر ، وإنما علقه على بعضها ، وهي الكفر بالله وصفاته وأفعاله .

                                                                                                                                                                                                              والدليل عليه قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية .

                                                                                                                                                                                                              فقوله : { لا يؤمنون بالله } نص في الكفر بذاته يقينا ، وفي الكفر بالصفات ظاهرا : لأن الله هو الموجود الذي له الصفات العلا والأسماء الحسنى ; فكل من أنكر وجود الله فهو كافر ، وقوله : { ولا باليوم الآخر } نص في صفاته ، فإن اليوم الآخر عرفناه بقدرته وبكلامه ; فأما علمنا له بقدرته فإن القدرة على اليوم الأول دليل على القدرة على اليوم الآخر .

                                                                                                                                                                                                              وأما علمنا له بالكلام فبإخباره أنه فاعله ، فإذا أنكر أحد البعث فقد أنكر القدرة والكلام ، وكفر قطعا بغير كلام ، وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } نص في أفعاله التي من أمهاتها إرسال الرسل ، وتأييدهم بالمعجزات النازلة منزلة قوله : صدقتم أيها الرسل ، فإذا أنكر أحد الرسل أو كذبهم فيما يخبرون عنه من التحليل والتحريم ، والأوامر والندب ، فهو [ ص: 475 ] كافر ، وكل جملة من هذه الوجوه الثلاثة له تفصيل تدل عليه هذه الجملة التي أشرنا ، بها اختلف الناس في التكفير بذلك التفصيل ، والتفسيق والتخطئة والتصويب ; وذلك كالقول في التشبيه والتجسيم والجهة ، أو الخوض في إنكار العلم والقدرة ، والإرادة والكلام والحياة ، فهذه الأصول يكفر جاحدها بلا إشكال .

                                                                                                                                                                                                              وكقول المعتزلة : إن العباد يخلقون أفعالهم ، وإنهم يفعلون ما لا يريده الله ، وإن نفوذ القضاء والقدر على الخلق بالنار جور .

                                                                                                                                                                                                              وكقول المشبهة : إن الباري جسم ، وإنه يختص بجهة ، وإنه قادر على المحال ، وإنه تعالى قد نص على كل حادثة من الأحكام .

                                                                                                                                                                                                              وهذا كله كذب صراح ، وبعد هذا تفاصيل ينبني عليها ويجر إليها ، وفي التكفير بها تدقيق .

                                                                                                                                                                                                              ومن أعظم الإشارة بقوله : ولا باليوم الآخر الإخبار عن النصارى الذين يقولون : إن نعيم الجنة وعذاب النار معان ; كالسرور والهم ، وليست صورا ، ولا فيها أكل ولا شرب ، ولا وطء ولا حياة ، ولا مهل يشرب ، ولا نار تلظى .

                                                                                                                                                                                                              وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } إخبار عما كانت العرب تفعله من التحريم بعقولها في السائبة والوصيلة والحام ، وما يختص بتحريمه الإناث دون الذكور ، إلى غير ذلك من أقوال الزور ، وعما كانت الرهبان تفعله ، والأحبار من اليهود تبتدعه من تحريم ما أحل الله في الإنجيل والتوراة ، أو تحليل ما حرم الله عليهم فيه .

                                                                                                                                                                                                              وقوله : { ولا يدينون دين الحق } إشارة إلى هذه الجملة من الاعتقاد للحق والعمل بمقتضى الشرع .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية