الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 478 ] لا يشترط انقراض عصر المجمعين ] الأمر الأول : لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين وموت الجميع على الصحيح عند المحققين ، بل يكون اتفاقهم حجة في الحال ، وإن لم ينقرضوا ، فإن رجع أحدهم لا يقبل رجوعه ، بل يكون قوله الأول مع قول الآخرين حجة عليه كما هو حجة على غيره ، وكذا لو نشأ في العصر مخالف قبل انقراض أهله كما قاله الإمام في النهاية " في مسألة ابن عباس رضي الله عنهما ، وحجبه الأم بثلاثة إخوة ; لأن المقتضي قد وجد ، وهو صورة الإجماع ولا مانع فيلزم الحكم . قال القاضي في التقريب " : وهو قول الجمهور ، وقال الباجي : هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين . وقال عبد الوهاب : إنه الصحيح ، وقال الأستاذ أبو منصور : وهو قول القلانسي من أصحابنا مع المعتزلة وأصحاب الرأي . وقال ابن برهان : هو القول المنصور عندنا . [ ص: 479 ] وقال ابن السمعاني : إنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي ، وقال الرافعي في الأقضية : إنه أصح الوجهين . وقال الإمام في النهاية " . في باب نواقض الوضوء : إنه المختار ، وجرى عليه الدبوسي في التقويم " ، وقال أبو سفيان : إنه قول أصحاب أبي حنيفة ، وقال أبو بكر الرازي : إنه الصحيح ، وحكاه عن الكرخي .

                                                      والمذهب الثاني : يشترط ، وهو مذهب أحمد ، ونصره محققو أصحابه ، واختاره ابن فورك ، وسليم ، ونقله ابن برهان من أصحابنا عن المعتزلة . ونقله صاحب المعتمد " عن الجبائي ونقله الأستاذ أبو منصور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري . واختلفوا في علته على وجهين . أحدهما : أن فائدة اشتراطه إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم . والثاني : جواز وجود مجتهد آخر ، وينبني على العلتين ، ما لو وجد مجتهد قبل انقراضهم ، يعتبر وفاقه .

                                                      قال القاضي في التقريب " : والمشترطون افترقوا فرقتين ، فمنهم من اشترط انقراض جميع أهله ، ومنهم من اشترط انقراض أكثرهم ، فإن بقي واحد أو اثنان ونحوه مما لا يقع العلم بصدق خبره لم يعتد ببقائه . ومنهم من اعتبر موت العلماء فقط . حكاه عبد الوهاب ، وكأنه بناه على دخول العامة في الإجماع . وقال الغزالي في المنخول " : اختلف المشترطون ، فقيل : يكتفى [ ص: 480 ] بموتهم تحت هدم دفعة ، إذ الغرض انتهاء عمرهم عليه ، وقال المحققون : لا بد من انقضاء مدة تفيد فائدة ، فإنهم قد يجمعون على رأي ، وهو معرض للتغيير . وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أبدى الخلاف في مسائل بعد اتفاق الصحابة . وقال صاحب الكبريت الأحمر " : القائلون بالاشتراط اختلفوا ، فقيل : هو شرط في انعقاد الإجماع ، وقيل : شرط في كونه حجة ، وإذا قلنا : إن الانقراض شرط ، فعلام يعتبر ؟ فيه وجهان . ذكره أبو علي الطبري : أحدها : أنه يعتبر فيما بني أمره على المسامحة ، فيتساهل الأمر فيه . فأما ما يتعلق بالإتلاف : من قتل ، أو قطع ، أو ما أشبهه ، لم يعتبر فيه انقراض العصر .

                                                      والثاني : أنه يعتبر في جميع الأشياء حكاه بعض شراح اللمع " . ثم قال إلكيا : مقتضى اشتراط انقراض العصر أن لا يستقر الإجماع ما بقي من الصحابة واحد ، ولو لحقهم زمرة من المجتهدين قبل أن [ ينقرضوا ] فلا شك أنهم صاروا معتبرين فيما بينهم وصار خلافهم معتبرا ، ومع هذا أجمعوا على أنه لا يشترط انقراض عصر اللاحقين ، فإنا لو اعتبرنا ذلك لم يستقر الإجماع ، ومعلوم أن اللاحق صار كالسابق في اعتبار قوله ، وإذا كان اعتبار قوله يمنع من استقرار الإجماع فينبغي عدم اشتراطه ; لأن المخالف لو خالف قبل انقراض عصر الأولين اعتبر خلافهم ، فإذا مات الأولون بعد تحقق انقراض العصر ، فينبغي أن تصير المسألة إجماعية . والمذهب الثالث : إن كان سكوتيا اشترط لضعفه ، بخلاف القولي ، [ ص: 481 ] وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ، وأبي منصور البغدادي ، فقال أبو منصور في كتاب التحصيل " : إنه قول الحذاق من أصحاب الشافعي ، وقال القاضي أبو الطيب : إنه قول أكثر الأصحاب ، واختاره البندنيجي أيضا .

                                                      وقال القاضي الحسين في باب الكفارة من تعليقه " : إنه ظاهر المذهب ، وجعل سليم محل الخلاف في القولي قال : وأما السكوتي فانقراض العصر معتبر فيه بلا خلاف ، وحاصله اختيار هذا المذهب ، وممن اختاره من المتأخرين الآمدي . واعلم أن ما نقلته عن الأستاذ أبي إسحاق تابعت فيه إمام الحرمين ، لكن الذي في تعليقة الأستاذ عدم الاشتراط فيهما جميعا . والمذهب الرابع : التفصيل بين أن يستند إلى قاطع فلا يشترط فيه تمادي زمان ، وينتهض حجة على الفور ، وبين أن يستند إلى ظني ، فليس بحجة ، حتى يطول الزمان ، وتتكرر الواقعة ، ولو طال الزمان ، ولم يتكرر ، فلا أثر له ، وهذا قول إمام الحرمين في البرهان " ، ومستنده أن المسألة لما استندت إلى ظني ، وطالت المدة ، وتكررت الواقعة ، ولم يعرض لأحد خلاف . التحق بالمقطوع ، وصرج بأنهم لو هلكوا عقب الإجماع فليس بإجماع . وظهر بهذا أن الانقراض عنده غير شرط ولا معتبر في حالة من الأحوال ، وبذلك يعرف وهم ابن الحاجب في نقله عنه التفصيل بين الصادر عن قياس ، فيشترط فيه الانقراض ، وإلا فلا .

                                                      وليس كما قال ، بل كلامه مصرح بعدم اعتبار الانقراض ألبتة ، ومع ذلك فما قاله في الظني [ ص: 482 ] حكم عليه بتقدير وقوعه ، ويرى أنه غير متصور الوقوع [ و ] اشتراطه طول الزمان في الظني ، إنما هو ليصل إلى القطع ، لا أنه متصور في نفسه . ثم أشار إلى ضابط قدر الزمان بما لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأي إلا عن حامل قاطع ، أو نازل منزلة القاطع على الإصرار ، واختاره في المنخول " ، وقال : الرجوع في مقداره إلى العرف ، ورده في القواطع " بأنه لا يعرف إلى أي شيء استناد المجمعين ، ولو عرف استنادهم إلى المقطوع كان هو الحجة دون الإجماع . وقال إلكيا : قال الإمام : إن قطع أهل الإجماع في مظنة الظن ، فلا يعتبروا انقراضه ، فإن ذلك لا يصدر إلا عن توقيف وتقدير يقتضيه خرق العادة ، والعادة لا تخرق لا في لحظة ولا في أمد طويل .

                                                      قال : وهذا الذي ذكر الإمام لا يختص بالإجماع ، فإن المجتهد لو قطع في مظنة الظن كان كذلك ، ولا فائدة له كبيرة هنا . قال : وإن كان الإجماع في الحكم مع الاعتراف باستناده إلى اجتهاده فما داموا في مهلة البحث فلا مذهب لهم ، فضلا عن أن يكون إجماعا ، وإن جزموا الحكم بناء على أحد النظرين ، فهذا مما يبعد الإمام ، ويرى أن الرأي الذي أجمع عليه أهل التواتر مستند للقاطع .

                                                      وقد بينا من قبل تصوره ، وحينئذ فالمعتبر ظهور إصرارهم ، والإصرار قد يتبين بالقرائن ، إما في المجلس أو بعده . والمذهب الخامس : ينعقد قبل الانفراض فيما لا مهلة فيه ، ولا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج . حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا ، وهو نظير ما سبق في السكوتي . والمذهب السادس : أنه إذا لم يبق من المجمعين إلا عدد ينقصون عن [ ص: 483 ] أقل عدد التواتر ، فلا عبرة ببقائهم : وعلم انعقاد الإجماع . حكاه القاضي في مختصر التقريب " ، وأشار إليه ابن برهان في ، الوجيز " ، والمذهب السابع : إن شرطوا في إجماعهم أنه غير مستقر ، وجوزوا الخلاف ، اعتبر انقراض العصر . وإن لم يشترطوا ذلك ، لم يعتبر . حكاه القاضي في مختصر التقريب " ، وسليم الرازي ، ثم قيده بالمسائل الاجتهادية ، دون مسائل الأصول التي يقطع فيها بخطأ المخالف . والمذهب الثامن : إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك ، اشترط قطعا ، وإن تعلق بها ذلك مما لا يمكن استدراكه كإراقة الدماء ، واستباحة الفروج ، فوجهان ، وهو طريقة الماوردي في الحاوي " .

                                                      قال سليم : وفائدة الخلاف في هذه المسألة ، أن من اعتبر انقراض العصر جوز أن يجمعوا على حكم ، ثم يرجعوا عنه ، أو بعضهم ، ومن لم يعتبر لم يجوز ذلك . تنبيهات الأول : [ المراد بانقراض العصر ] قال ابن برهان : ليس المراد بالانقراض مدة معلومة ، بل موت المجمعين المجتهدين . فالعصر في لسانهم المراد به علماء العصر ، والانقراض عبارة عن موتهم وهلاكهم ، حتى لو قدر موتهم في لحظة واحدة في سفينة ، فإنه يقال : انقراض العصر . الثاني : صور الطبري المسألة بإجماع الصحابة ، وظاهره أن إجماع [ ص: 484 ] التابعين لا خلاف في عدم اشتراط انقراضهم ، وبه صرح بعد ، وكلام غيره ظاهر في التعميم . ومن المشترطين من أحال عدم بلوغ الأمة في عصر حد التواتر ، حكاه القاضي عبد الوهاب ، وحينئذ فيخرج في المسألة مذهب ثامن . الثالث : أن المشترطين قالوا : يحتج به ، وإن كان انقراض العصر شرطا ، كما يجب علينا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ، وإن جاز تبديله بنسخ ، وذلك لأن الأصل عدم رجوعهم ، ثم إذا رجعوا فغايته أنهم اتفقوا على خطأ لم يقروا عليه .

                                                      [ لا يشترط في المجمعين بلوغهم حد التواتر ] الأمر الثاني : لا يشترط في المجمعين بلوغهم حد التواتر ، خلافا للقاضي ، بل يجوز انحطاطهم عنه عقلا ، ونقل ابن برهان عن معظم العلماء وعن طوائف من المتكلمين ، أنه لا يجوز عقلا . وإذا جوزنا ، فهل ينعقد الإجماع به ؟ فذهب معظم العلماء إلى أنه يكون حجة ، كما قاله ابن برهان ، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق ، وقال إمام الحرمين : يجوز ، ولكن لا يكون إجماعهم حجة ، فإن مأخذ الخلاف [ ص: 485 ] مستند إلى طرد العادة ، ومن لم يحسن استناد الإجماع إليه ، لم يستقر له قدم فيه ، ومأخذ الخلاف راجع إلى أن الإجماع من دلالة العادة أو السمع ، فمن أخذه من دلالة العقل ، واستحالة الخطأ بحكم العادة شرط التواتر ، ومن أخذه من الأدلة السمعية اختلفوا ، فمنهم من شرطه ، ومنهم من نفاه . وهو الصحيح ; لأن صورة الإجماع المشهود بعصمته عن الخطأ قد وجبت ، فيترتب عليها حكمها . وقال الهندي : المشترطون اختلفوا ، فقيل : إنه لا يتصور أن ينقص عدد المسلمين عن عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا .

                                                      ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور ، لكن يقطع بأن من ذهب إليه دون عدد التواتر سبيل المؤمنين ; لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع ، فلا يحرم مخالفته . ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن ، لا يشترط فيه ذلك ، بل يكفي فيه الظهور . لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع ، وهو يوجب كونه متواترا ، وإلا لم يكن قاطعا ، فما يقوم مقامه نقله متواترا ، وهو الحكم بمقتضاه ، يجب أن يكون صادرا عن عدد التواتر ، وإلا لم يقطع بوجوده .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية