الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال من نص : أنها الحيض : الدليل عليه وجوه .

أحدها : أن قوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ البقرة : 228 ] إما أن يراد به الأطهار فقط ، أو الحيض فقط ، أو مجموعهما .

والثالث : محال إجماعا ، حتى عند من يحمل اللفظ المشترك على معنييه . وإذا تعين حمله على أحدهما ، فالحيض أولى به لوجوه .

أحدها : أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قرآن ، ولحظة من الثالث ، وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة في العدد المخصوص .

فإن قلتم : بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل ، قيل : جوابه من ثلاثة أوجه .

أحدها : أن هذا مختلف فيه كما تقدم ، فلم تجمع الأمة على أن بعض القرء قرء قط ، فدعوى هذا يفتقر إلى دليل .

الثاني : أن هذا دعوى مذهبية ، أوجب حمل الآية عليها إلزام كون الأقراء الأطهار ، والدعاوى المذهبية لا يفسر بها القرآن ، وتحمل عليها اللغة ، ولا يعقل في اللغة قط أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا ، ولا اجتمعت الأمة على ذلك ، فدعواه لا تثبت نقلا ولا إجماعا ، وإنما هو مجرد الحمل ، ولا ريب أن الحمل شيء ، والوضع شيء آخر ، وإنما يفيد ثبوت الوضع لغة أو شرعا أو عرفا .

[ ص: 537 ] الثالث : أن القرء إما أن يكون اسما لمجموع الطهر ، كما يكون اسما لمجموع الحيضة أو لبعضه ، أو مشتركا بين الأمرين اشتراكا لفظيا ، أو اشتراكا معنويا ، والأقسام الثلاثة باطلة فتعين الأول ، أما بطلان وضعه لبعض الطهر ، فلأنه يلزم أن يكون الطهر الواحد عدة أقراء ، ويكون استعمال لفظ " القرء " فيه مجازا .

وأما بطلان الاشتراك المعنوي ، فمن وجهين ، أحدهما : أنه يلزم أن يصدق على الطهر الواحد أنه عدة أقراء حقيقة .

والثاني : أن نظيره - وهو الحيض - لا يسمى جزؤه قرءا اتفاقا ، ووضع القرء لهما لغة لا يختلف ، وهذا لا خفاء به .

فإن قيل : نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركا بين كله وجزئه اشتراكا لفظيا ، ويحمل المشترك على معنييه ، فإنه أحفظ ، وبه تحصل البراءة بيقين . قيل الجواب من وجهين . أحدهما : أنه لا يصح اشتراكه كما تقدم .

الثاني : أنه لو صح اشتراكه ، لم يجز حمله على مجموع معنييه . أما على قول من لا يجوز حمل المشترك على معنييه ، فظاهر ، وأما من يجوز حمله عليهما ، فإنما يجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معا . فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما ، أو إرادتهما ، وحكى المتأخرون عن الشافعي ، والقاضي أبي بكر ، أنه إذا تجرد عن القرائن ، وجب حمله على معنييه ، كالاسم العام ؛ لأنه أحوط ، إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا سبيل إلى معنى ثالث ، وتعطيله غير ممكن ، ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة .

فإذا جاء وقت العمل ، ولم يتبين أن أحدهما هو المقصود بعينه ، علم أن الحقيقة غير مرادة ، إذ لو أريدت لبينت ، فتعين المجاز ، وهو مجموع المعنيين ، ومن يقول : إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول : لما لم يتبين أن المراد أحدهما علم أنه أراد كليهما .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : في هذه الحكاية عن الشافعي والقاضي نظر ، أما القاضي ، فمن أصله الوقف في صيغ العموم ، وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق إلا بدليل ، فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق من غير دليل ؟ وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة [ ص: 538 ] الاشتراك رأسا ، وما يدعى فيه الاشتراك ، فهو عنده من قبيل المتواطئ ، وأما الشافعي ، فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا ، وإنما استنبط هذا من قوله : إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل ، وهذا قد يكون قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطئة ، وأن موضعه القدر المشترك بينهما ، فإنه من الأسماء المتضايفة ، كقوله " من كنت مولاه فعلي مولاه ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على جميع معانيها ، ثم الذي يدل على فساد هذا القول وجوه .

أحدها : أن استعمال اللفظ في معنييه إنما هو مجاز ، إذ وضعه لكل واحد منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة ، واللفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز ، بل يجب حمله على حقيقته .

الثاني : أنه لو قدر أنه موضوع لهما منفردين ، ولكل واحد منهما مجتمعين ، فإنه يكون له حينئذ ثلاثة مفاهيم ، فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجب ممتنع .

الثالث : أنه حينئذ يستحيل حمله على جميع معانيه ، إذ حمله على هذا وحده ، وعليهما معا مستلزم للجمع بين النقيضين ، فيستحيل حمله على جميع معانيه ، وحمله عليهما معا حمل له على بعض مفهوماته ، فحمله على جميعها يبطل حمله على جميعها .

[ ص: 539 ] الرابع : أن هاهنا أمورا . أحدها : هذه الحقيقة وحدها ، والثاني : الحقيقة الأخرى وحدها ، والثالث : مجموعهما ، والرابع : مجاز هذه وحدها ، والخامس : مجاز الأخرى وحدها ، والسادس : مجازهما معا ، والسابع : الحقيقة وحدها مع مجازها ، والثامن : الحقيقة مع مجاز الأخرى . والتاسع : الحقيقة الواحدة مع مجازهما ، والعاشر : الحقيقة الأخرى مع مجازها ، والحادي عشر : مع مجاز الأخرى ، والثاني عشر : مع مجازهما ، فهذه اثنا عشر محملا بعضها على سبيل الحقيقة ، وبعضها على سبيل المجاز ، فتعيين معنى واحد مجازي دون سائر المجازات والحقائق ترجيح من غير مرجح ، وهو ممتنع .

الخامس : أنه لو وجب حمله على المعنيين جميعا لصار من صيغ العموم ؛ لأن حكم الاسم العام وجوب حمله على جميع مفرداته عند التجرد من التخصيص ، ولو كان كذلك ، لجاز استثناء أحد المعنيين منه ، ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم ، وكان المستعمل له في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للاسم العام في بعض معانيه ، فيكون متجوزا في خطابه غير متكلم بالحقيقة ، وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاج إلى دليل ، وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الآخر ، ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك في صيغ العموم ، ولا ينفي الإجمال عنه ، إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ العامة ، وهذا باطل قطعا ، وأحكام الأسماء المشتركة لا تفارق أحكام الأسماء العامة ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من اللغة ، ولكانت الأمة قد أجمعت في هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحد منهم إلى حمل " القرء " على الطهر والحيض معا ، وبهذا يتبين بطلان قولهم : حمله عليهما أحوط ، فإنه لو قدر حمل الآية على ثلاثة من الحيض والأطهار ، لكان فيه خروج عن الاحتياط .

وإن قيل : نحمله على ثلاثة من كل منهما ، فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة . [ ص: 540 ] قولهم : إما أن يحمل على أحدهما بعينه ، أو عليهما إلى آخره قلنا : مثل هذا لا يجوز أن يعرى عن دلالة تبين المراد منه كما في الأسماء المجملة ، وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين ، فلا يلزم أن تكون خفية عن مجموع الأمة ، وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث ، فالكلام ، إذا لم يكن مطلقه يدل على المعنى المراد ، فلا بد من بيان المراد .

التالي السابق


الخدمات العلمية