الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة

                                                                                                                                                                                                        6368 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي عهد إلي فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله [ ص: 33 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 33 ] قوله : ( باب الولد للفراش حرة كانت ) أي المستفرشة ( أو أمة ) .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عروة ) في رواية شعيب عن الزهري في العتق : " حدثني عروة " ، وكذا وقع في رواية عبد الله بن مسلمة عن مالك في المغازي لكن أخرجه في الوصايا بلفظ عن عروة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كان عتبة عهد إلى أخيه ) في رواية يحيى بن قزعة عن مالك في أوائل البيوع ابن أبي وقاص في الموضعين ، وكذا في رواية شعيب والليث وغيرهما عن الزهري ، وفي رواية ابن عيينة عن الزهري الماضية في الأشخاص : أوصاني أخي إذا قدمت - يعني مكة - أن أقبض إليك ابن أمة زمعة فإنه ابني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن ابن وليدة زمعة ) في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب الماضية في المظالم ابن أمة زمعة " ، والوليدة في الأصل المولودة ، وتطلق على الأمة ، وهذه الوليدة لم أقف على اسمها ، لكن ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير في " نسب قريش " أنها كانت أمة يمانية ، والوليدة فعيلة من الولادة بمعنى مفعولة ، قال الجوهري : هي الصبية والأمة والجمع ولائد ، وقيل : إنها اسم لغير أم الولد . وزمعة بفتح الزاي وسكون الميم وقد تحرك ، قال النووي : التسكين أشهر ، وقال أبو الوليد الوقشي : التحريك هو الصواب .

                                                                                                                                                                                                        قلت : والجاري على ألسنة المحدثين التسكين في الاسم والتحريك في النسبة ، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد بن زمعة بغير إضافة ، ووقع في " مختصر ابن الحاجب " عبد الله وهو غلط ، نعم عبد الله بن زمعة آخر ، وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاوي في هذا الحديث : عبد الله بن زمعة ونبه على أنه غلط وأن عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى آخر .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو الذي مضى حديثه في تفسير والشمس وضحاها وقد وقع لابن منده خبط في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة ؛ فإنه زعم أن عبد الرحمن وعبد الله وعبدا إخوة ثلاثة أولاد زمعة بن الأسود ، وليس كذلك بل عبد بغير إضافة وعبد الرحمن أخوان عامريان من قريش ، وعبد الله بن زمعة قرشي أسدي من قريش أيضا ، وقد أوضحت ذلك في " الإصابة في تمييز الصحابة " والابن المذكور اسمه عبد الرحمن ، وذكره ابن عبد البر في الصحابة وغيره ، وقد أعقب بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                        وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد مختلف في صحبته ، فذكره في الصحابة العسكري ، وذكر ما نقله الزبير بن بكار في النسب أنه كان أصاب دما بمكة في قريش فانتقل إلى المدينة ، ولما مات أوصى إلى سعد ، وذكره ابن منده في الصحابة ولم يذكر مستندا إلا قول سعد : " عهد إلى أخي أنه ولده " ، واستنكر أبو نعيم ذلك وذكر أنه الذي شج وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد ، [ ص: 34 ] قال : وما علمت له إسلاما ، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزري عن مقسم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرا فمات قبل الحول وهذا مرسل ، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه ، وأخرج الحاكم في " المستدرك " من طريق صفوان بن سليم عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول : " إن عتبة لما فعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل تبعته فقتلته " ، كذا قال ، وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وأم عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة ، وأم أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أمية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي ) في رواية يونس عن الزهري في المغازي : " فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في الفتح " ، وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد ، وهي لمسلم لكن لم يسق لفظها " فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه وقال : ابن أخي ورب الكعبة " ، وفي رواية الليث " فقال سعد : يا رسول الله ، هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه " ، وعتبة بالجر بدل من لفظ أخي أو عطف بيان ، والضمير في أخي لسعد لا لعتبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقام عبد بن زمعة فقال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ) في رواية معمر : " فجاء عبد بن زمعة فقال : بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته " ، وفي رواية يونس : " يا رسول الله ، هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه " ، زاد في رواية الليث : " انظر إلى شبهه يا رسول الله " ، وفي رواية يونس : " فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص " ، وفي رواية الليث : " فرأى شبها بينا بعتبة " .

                                                                                                                                                                                                        وكذا لابن عيينة عند أبي داود وغيره ، قال الخطابي وتبعه عياض والقرطبي وغيرهما : كان أهل الجاهلية يقتنون الولائد ويقررون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور ، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح ، وكانت لزمعة أمة ، وكان يلم بها ، فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاص أنه منه وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه ، فخاصم فيه عبد بن زمعة ، فقال لي سعد : هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، وقال عبد : هو أخي على ما استقر عليه الأمر في الإسلام ، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الجاهلية وألحقه بزمعة ، وأبدل عياض قوله : إذا ادعوا الولد بقوله إذا اعترفت به الأم ، وبنى عليهما القرطبي فقال : ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهلية إما لعدم الدعوى وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد مضى في النكاح من حديث عائشة ما يؤيد أنهم كانوا يعتبرون استلحاق الأم في صورة وإلحاق القائف في صورة ولفظها : إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء الحديث ، وفيه يجتمع الرهط ما دون العشر فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال أرسلت إليهم فاجتمعوا عندها فقالت : قد ولدت فهو ابنك يا فلان ، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع إلى أن قالت : ونكاح البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن فوضعت جمعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك انتهى

                                                                                                                                                                                                        واللائق بقصة أمة زمعة الأخير ، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه ، أو أنها لم تكن بصفة البغايا ، بل أصابها عتبة سرا من زنا وهما كافران ، فحملت وولدت ولدا يشبهه فغلب على ظنه أنه منه ، فبغته الموت قبل استلحاقه ، فأوصى أخاه أن يستلحقه ، فعمل سعد بعد ذلك تمسكا بالبراءة الأصلية .

                                                                                                                                                                                                        قال القرطبي : وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش ، وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به ، كذا قاله ، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنفي ، وكأنه بناه على ما قال الخطابي أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب ، فكان الإلحاق مختصا باستلحاقها على ما ذكر ، [ ص: 35 ] أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة ، لكن لم يذكر الخطابي مستندا لذلك .

                                                                                                                                                                                                        والذي يظهر من سياق القصة ما قدمته أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة ، فاتفق أن عتبة زنى بها كما تقدم ، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه ، وإن نفاه انتفى عنه ، وإذا ادعاه غيره كان مرد ذلك إلى السيد أو القافة ، وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيد ما قلته .

                                                                                                                                                                                                        وأما قوله : إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع إلخ ففيه نظر; لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكة لم يسلم بعد ولا يسمعه سعد بن أبي وقاص ، وهو من السابقين الأولين الملازمين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة ، حتى ولو قلنا : إن الشرع لم يرد بذلك إلا في زمن الفتح ، فبلوغه لعبد قبل سعد بعيد أيضا ، والذي يظهر لي أن شرعية ذلك إنما عرفت من قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة : الولد للفراش وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدعيه ، بل الذي يظهر أن كلا من سعد وعتبة بنى على البراءة الأصلية ، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : قام رجل فقال : يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام ، ذهب أمر الجاهلية ، الولد للفراش وللعاهر الحجر وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع في زمن الفتح ، وهو يؤيد ما قلته .

                                                                                                                                                                                                        واستدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب ، بل للأخ أن يستلحق ، وهو قول الشافعية وجماعة بشرط أن يكون الأخ حائزا أو يوافقه باقي الورثة وإمكان كونه من المذكور ، وأن يوافق على ذلك إن كان بالغا عاقلا ، وأن لا يكون معروف الأب ، وتعقب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد ، وأجيب بأنه لم يخلف وارثا غيره إلا سودة ، فإن كان زمعة مات كافرا فلم يرثه إلا عبد وحده ، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته سودة فيحتمل أن تكون وكلت أخاها في ذلك أو ادعت أيضا ، وخص مالك وطائفة الاستلحاق بالأب ، وأجابوا بأن الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد لاحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك بوجه من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء ، ولأنه إنما حكم بالفراش ; لأنه قال بعد قوله : هو لك الولد للفراش لأنه لما أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحب الفراش .

                                                                                                                                                                                                        وجرى المزني على القول بأن الإلحاق يختص بالأب فقال : أجمعوا على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره ، والذي عندي في قصة عبد بن زمعة أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدعي صاحب الفراش لا أنه قبل دعوى سعد عن أخيه عتبة ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة ، بل عرفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال : ولذلك قال : احتجبي منه يا سودة وتعقب بأن قوله لعبد بن زمعة : هو أخوك يدفع هذا التأويل ، واستدل به على أن الوصي يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه ويكون كالوكيل عنه في ذلك ، وقد مضى التبويب بذلك في كتاب الأشخاص ، وعلى أن الأمة تصير فراشا بالوطء ، فإذا اعترف السيد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأي طريق كان ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزوجة ، لكن الزوجة تصير فراشا بمجرد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلا الإمكان ; لأنها تراد للوطء فجعل العقد عليها كالوطء بخلاف الأمة ؛ فإنها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقها الوطء ، ومن ثم يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء ، وهذا قول الجمهور .

                                                                                                                                                                                                        وعن الحنفية لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت من السيد ولدا ولحق به فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه ، وعن الحنابلة من اعترف بالوطء فأتت منه لمدة الإمكان لحقه وإن ولدت منه أولا فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم ، وترجيح المذهب الأول ظاهر ; لأنه لم ينقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر ، والكل متفقون على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء .

                                                                                                                                                                                                        قال النووي : وطء زمعة أمته المذكورة علم إما ببينة وإما باطلاع [ ص: 36 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . قلت : وفي حديث ابن الزبير ما يشعر بأن ذلك كان أمرا مشهورا وسأذكر لفظه قريبا ، واستدل به على أن السبب لا يخرج ولو قلنا إن العبرة بعموم اللفظ .

                                                                                                                                                                                                        ونقل الغزالي تبعا لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشافعي قولا بخصوص السبب تمسكا بما نقل عن الشافعي أنه ناظر بعض الحنفية لما قال : إن أبا حنيفة خص الفراش بالزوجة وأخرج الأمة من عموم الولد للفراش فرد عليه الشافعي بأن هذا ورد على سبب خاص ، ورد ذلك الفخر الرازي على من قاله بأن مراد الشافعي أن خصوص السبب لا يخرج ، والخبر إنما ورد في حق الأمة فلا يجوز إخراجه ، ثم رفع الاتفاق على تعميمه في الزوجات ، لكن شرط الشافعي والجمهور الإمكان زمانا ومكانا .

                                                                                                                                                                                                        وعن الحنفية يكفي مجرد العقد فتصير فراشا ويلحق الزوج الولد ، وحجتهم عموم قوله : الولد للفراش لأنه لا يحتاج إلى تقدير ، وهو الولد لصاحب الفراش; لأن المراد بالفراش الموطوءة ، ورده القرطبي بأن الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها ، أي : يصيرها بوطئه لها فراشا له يعني فلا بد من اعتبار الوطء حتى تسمى فراشا وألحق به إمكان الوطء ، فمع عدم إمكان الوطء لا تسمى فراشا . وفهم بعض الشراح عن القرطبي خلاف مراده فقال : كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرد كون الفراش هو الموطوءة ، وليس هو المراد ، فعلم أنه لا بد من تقدير محذوف; لأنه قال : إن الفراش هو الموطوءة ، والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطئ ، قال المعترض : وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير الحذف .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد بينت وجه استقامته بحمد الله ، ويؤيد ذلك أيضا أن ابن الأعرابي اللغوي نقل أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج ، وعن المرأة والأكثر إطلاقه على المرأة ، ومما ورد في التعبير به عن الرجل قول جرير فيمن تزوجت بعد قتل زوجها أو سيدها :


                                                                                                                                                                                                        باتت تعانقه وبات فراشها خلق العباءة بالبلاء ثقيلا

                                                                                                                                                                                                        وقد يعبر به عن حالة الافتراش ، ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعين الحذف ، نعم لا يمكن حمل الخبر على كل واطئ ، بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزوج والسيد ، ومن ثم قال ابن دقيق العيد : معنى " الولد للفراش تابع للفراش أو محكوم به للفراش أو ما يقارب هذا ، وقد شنع بعضهم على الحنفية بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال ، وأجاب بعضهم بأنه خصص الظاهر القوي بالقياس ، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها ، واستدل به على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه ; لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة ، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة ; لأنه عارضه حكم أقوى منه ، وهو مشروعية اللعان ، وفيه تخصيص عموم الولد للفراش وقد تمسك بالعموم الشعبي وبعض المالكية وهو شاذ ، ونقل عن الشافعي أنه قال : لقوله : الولد للفراش معنيان ؛ أحدهما هو له ما لم ينفه فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه ، والثاني إذا تنازع رب الفراش والعاهر فالولد لرب الفراش .

                                                                                                                                                                                                        قلت : والثاني منطبق على خصوص الواقعة والأول أعم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فتساوقا ) أي تلازما في الذهاب بحيث إن كلا منهما كان كالذي يسوق الآخر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هو لك يا عبد بن زمعة ) كذا للأكثر ، وقد تقدم ضبط عبد وأنه يجوز فيه الضم والفتح ، وأما ابن فهو منصوب على الحالين ، ووقع في رواية للنسائي هو لك عبد بن زمعة بحذف حرف النداء ، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين وهو مردود فقد وقع في رواية يونس المعلقة في المغازي : " هو لك ، هو أخوك يا عبد " ، ووقع لمسدد عن [ ص: 37 ] ابن عيينة عند أبي داود " هو أخوك يا عبد " .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن عبد البر : تثبت الأمة فراشا عند أهل الحجاز إن أقر سيدها أنه كان يلم بها ، وعند أهل العراق إن أقر سيدها بالولد ، وقال المازري : يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه ، وهو صحيح عند الشافعي إذا لم يكن له وارث سواه ، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادعاه ولدا ولا اعترف بوطء أمه ، فكان المعول في هذه القصة على استلحاق عبد بن زمعة ، قال : وعندنا لا يصح استلحاق الأخ ، ولا حجة في هذا الحديث ; لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء ، وإنما يصعب هذا على العراقيين ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعي لما قررناه أنه لم يكن لزمعة ولد من الأمة المذكورة سابق ، ومجرد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشافعي .

                                                                                                                                                                                                        قال : ولما ضاق عليهم الأمر قالوا الرواية في هذا الحديث هو لك عبد بن زمعة وحذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة ، والأصل : يا ابن زمعة ، قالوا : والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة بل هو عبد لولده ; لأنه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم ترث زمعة ; لأنه مات كافرا وهي مسلمة ، قال : وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة ، ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة ، وقلنا : بل المحذوف حرف النداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكاية عن صاحب يوسف حيث قال : يوسف أعرض عن هذا انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد سلك الطحاوي فيه مسلكا آخر فقال : معنى قوله : " هو لك " أي يدك عليه لا أنك تملكه ، ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبين أمره كما قال لصاحب اللقطة " هي لك " وقال له إذا جاء صاحبها فأدها إليه ، قال ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك لكن لم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدعوى به ألزم عبدا بما أقر به على نفسه ، ولم يجعل ذلك حجة عليها فأمرها بالاحتجاب ، وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله : " هو أخوك " فإنها رفعت الإشكال ، وكأنه لم يقف عليها ، ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدا في الدعوى بذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تقدم في غزوة الفتح تعليقا من رواية يونس عن ابن شهاب " قالت عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الولد إلخ " وهذا منقطع ، وقد وصله غيره عن ابن شهاب ، ووقع في رواية يونس أيضا ، قال ابن شهاب : وكان أبو هريرة يصيح بذلك ، وقد قدمت هناك أن مسلما أخرجه موصولا من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وأبي هريرة ، وقوله : وللعاهر الحجر أي للزاني الخيبة والحرمان ، والعهر - بفتحتين - الزنا ، وقيل يختص بالليل ، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه ، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب " له الحجر وبفيه الحجر والتراب " ونحو ذلك ، وقيل : المراد بالحجر هنا أنه يرجم .

                                                                                                                                                                                                        قال النووي : وهو ضعيف ; لأن الرجم مختص بالمحصن ، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد ، والخبر إنما سيق لنفي الولد . وقال السبكي : والأول أشبه بمساق الحديث لتعم الخيبة كل زان ، ودليل الرجم ، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتخصيص من غير دليل .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ويؤيد الأول أيضا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب بمثلثة ثم موحدة بينهما لام وبفتح أوله وثالثه ويكسران ، قيل هو الحجر ، وقيل دقاقه ، وقيل التراب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم قال لسودة احتجبي منه ) في رواية الليث واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فما رآها حتى لقي الله ) في رواية معمر قالت عائشة : فوالله ما رآها حتى ماتت ، وفي رواية الليث : فلم تره سودة قط يعني في المدة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما ، وكذا لمسلم من طريقه ، وفي رواية [ ص: 38 ] ابن جريج في صحيح أبي عوانة مثله ، وفي رواية الكشميهني الآتية في حديث الليث أيضا : فلم تره سودة بعد ، وهذه إذا ضمت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنها امتثلت الأمر وبالغت في الاحتجاب منه حتى إنها لم تره فضلا عن أن يراها ; لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته .

                                                                                                                                                                                                        وقد استدل به الحنفية على أنه لم يلحقه بزمعة ; لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه ، وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط لأنه وإن حكم بأنه أخوها لقوله في الطرق الصحيحة : " هو أخوك يا عبد " ، وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه فهو أخو سودة لأبيها ، لكن لما رأى الشبه بينا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطا ، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين ; لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن ، قال : والشبه يعتبر في بعض المواطن لكن لا يقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه ، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس ثم يوجد فيها نص فيترك القياس .

                                                                                                                                                                                                        قال : وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث وليس بالثابت : " احتجبي منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ " ، وتبعه النووي فقال : هذه الزيادة باطلة مردودة ، وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن ولفظه : كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر أنه يقع عليها فجاءت بولد يشبه الذي كان يظن به فمات زمعة ، فذكرت ذلك سودة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ ورجال سنده رجال الصحيح إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزبير .

                                                                                                                                                                                                        وقد طعن البيهقي في سنده فقال : فيه جرير ، وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ ، وفيه يوسف وهو غير معروف ، وعلى تقدير ثبوته فلا يعارض حديث عائشة المتفق على صحته ، وتعقب بأن جريرا هذا لم ينسب إلى سوء حفظ ، وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم ، وبأن الجمع بينهما ممكن فلا ترجيح ، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير ، وعلى هذا فيتعين تأويله ، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدم من أمرها بالاحتجاب منه .

                                                                                                                                                                                                        ونقل ابن العربي في " القوانين " عن الشافعي نحو ما تقدم وزاد ، ولو كان أخاها بنسب محقق لما منعها كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة ، وقال البيهقي : معنى قوله : " ليس لك بأخ " إن ثبت ليس لك بأخ شبها فلا يخالف قوله لعبد " هو أخوك " .

                                                                                                                                                                                                        قلت : أو معنى قوله : " ليس لك بأخ " بالنسبة للميراث من زمعة ؛ لأن زمعة مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة ، فلا حق لسودة في إرثه ، بل حازه عبد قبل الاستلحاق ، فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبد : " هو أخوك " ، وقال لسودة : " ليس لك بأخ " .

                                                                                                                                                                                                        وقال القرطبي بعد أن قرر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات : ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤمنين كما قال : أفعمياوان أنتما فنهاهما عن رؤية الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس : اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه أعمى فغلظ الحجاب في حقهن دون غيرهن ، وقد تقدم في تفسير الحجاب قول من قال : إنه كان يحرم عليهن بعد الحجاب إبراز أشخاصهن ولو كن مستترات إلا لضرورة بخلاف غيرهن فلا يشترط ، وأيضا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها فلعل المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن حزم : لا يجب على المرأة أن يراها أخوها بل الواجب عليها صلة رحمها ، ورد على من زعم أن معنى قوله : " هو لك " أي عبد ، بأنه لو قضى بأنه عبد لما أمر سودة بالاحتجاب منه إما لأن لها فيه حصة ، وإما لأن من في الرق لا يحتجب منه على القول بذلك ، وقد تقدم جواب المزني عن ذلك قريبا .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطى أحكاما بعدد ذلك ، وذلك [ ص: 39 ] أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب ، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة ، فأعطى الفرع حكما بين حكمين ، فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب ، قال : وإلحاقه بهما ، ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن دقيق العيد : ويعترض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين ، وهنا الإلحاق شرعي للتصريح بقوله : الولد للفراش فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلا; لأنه يناقض الإلحاق فتعين أنه للاحتياط لا لوجوب حكم شرعي ، وليس فيه إلا ترك مباح مع ثبوت المحرمية .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به على أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن كما لو حكم بشهادة ، فظهر أنها زور ; لأنه حكم بأنه أخو عبد ، وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشبه بعتبة ، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لما أمرها بالاحتجاب ، واستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة وهو قول الجمهور ، ووجه الدلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني .

                                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المشهور عنه والشافعي : لا أثر لوطء الزنا بل للزاني أن يتزوج أم التي زنى بها وبنتها ، وزاد الشافعي ووافقه ابن الماجشون : والبنت التي تلدها المزني بها ، ولو عرفت أنها منه ، قال النووي : وهذا احتجاج باطل ; لأنه على تقدير أن يكون من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزنا ، كذا قال وهو رد للفرع برد الأصل ، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح .

                                                                                                                                                                                                        وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط ، ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب ، وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك ، فعلى تقدير الندب فالشافعي قائل به في المخلوقة من الزنا ، وعلى التخصيص فلا إشكال ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        ويلزم من قال بالوجوب أن يقول به في تزويج البنت المخلوقة من ماء الزنا فيجيز عند فقد الشبه ويمنع عند وجوده ، واستدل به على صحة ملك الكافر الوثني الأمة الكافرة ، وأن حكمها بعد أن تلد من سيدها حكم القن ; لأن عبدا وسعدا أطلقا عليها أمة ووليدة ، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        كذا أشار إليه البخاري في كتاب العتق عقب هذا الحديث بعد أن ترجم له " أم الولد " ولكنه ليس في أكثر النسخ ، وأجيب بأن عتق أم الولد بموت السيد ثبت بأدلة أخرى ، وقيل : إن غرض البخاري بإيراده أن بعض الحنفية لما ألزم أن أم الولد المتنازع فيه كانت حرة رد ذلك ، وقال : بل كانت عتقت ، وكأنه قد ورد في بعض طرقه أنها أمة فمن ادعى أنها عتقت فعليه البيان .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية