الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ إزالة النجاسة على وفق القياس ]

وأما إزالة النجاسة فمن قال " إنها على خلاف القياس " فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها ، وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنجس بها ، ثم لاقى الثاني والثالث كذلك ، وهلم جرا ، والنجس لا يزيل نجاسة ، وهذا غلط ، فإنه يقال : فلم قلتم : إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة نجس ؟ فإن قلتم : الحكم في بعض الصور كذلك ، قيل : هذا ممنوع عند من يقول : إن الماء لا ينجس إلا بالتغير .

فإن قيل : فيقاس ما لم يتغير على " ما تغير .

قيل : هذا من أبطل القياس حسا وشرعا ، وليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفا للقياس " بل يقال : إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس ، كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس ، فهذا القياس أصح من ذلك القياس ; لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا ، وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص [ ص: 296 ] والإجماع .

وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع ، فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع ؟ والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع ، وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس ، فإنه باق على أصل خلقته ، وهو طيب ، فيدخل في قوله : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح .

وقد تنازع الفقهاء : هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل ، أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذا لم يتغير ؟ على قولين ، والأول قول أهل العراق ، والثاني قول أهل الحجاز ، وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا .

وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول ، فإن الله - سبحانه - أباح الطيبات وحرم الخبائث ، والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قائمة به ، فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها ، فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلفه ضده ، فهذا هو محض القياس والمعقول ، فهذا الماء والطعام كان طيبا لقيام الصفة الموجبة لطيبه ، فإذا زالت تلك الصفة وخلفتها صفة الخبث عاد خبيثا ، فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه ، وهذا كالعصير الطيب إذا تخمر صار خبيثا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيبا ، والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثا فإذا زال التغير عاد طيبا ، والرجل المسلم إذا ارتد صار خبيثا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبا .

والدليل على أنه طيب الحس والشرع : أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثر بوجه ما ، لا في لون ولا طعم ولا رائحة ، ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه . وأما الشرع فمن وجوه : أحدها أنه كان طيبا قبل ملاقاته لما يتأثر به ، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة : استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربا أو طبخا أو عجنا ، وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع .

الثاني : أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرة من خمر مثل رأس الذبابة لم يحد اتفاقا ، ولو شربه صبي وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم تنشر الحرمة ، فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس .

والذين قالوا : " إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة " تناقضوا أعظم تناقض ، ولم يمكنهم طرد هذا الأصل : فمنهم من استثنى مقدار القلتين على خلافهم فيها ، ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحه ، ومنهم من استثنى ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر ، ومنهم [ ص: 297 ] من استثنى الجاري خاصة ، وفرقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق : منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعل وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف ، ومنها أنه إذا كان واردا فهو جار والجاري له قوة ، ومنها أنه إذا كان واردا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة ، والصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير ، وأنه إذا تغير في محل التطهير فهو نجس أيضا ، وهو في حال تغيره لم يزلها ، وإنما خففها ، ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير ، وهذا هو القياس في المائعات كلها : أن يسير النجاسة إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها فيه لون ولا طعم ولا رائحة فهي من الطيبات لا من الخبائث .

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الماء لا ينجس } وصح عنه أنه قال : { إن الماء لا يجنب } وهما نصان صريحان في أن الماء لا ينجس بالملاقاة ، ولا يسلب طهوريته استعماله في إزالة الحدث ، ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب ، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح البخاري أنه { سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : ألقوها وما حولها وكلوه } ولم يفصل بين أن يكون جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا ، فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه ، وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول ، وهو غلط من معمر من عدة وجوه بينها البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما ، ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر ، وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير ، واستدل بالحديث ، فهذه فتياه ، وهذا استدلاله ، وهذه رواية الأئمة عنه ، فقد اتفق على ذلك النص والقياس ، ولا يصلح للناس سواه ، وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده كما تقدم ، فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص .

التالي السابق


الخدمات العلمية