الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( ويستحيل الجهل والعجز كما قد استحال الموت حقا والعمى ) )


( ( فكل نقص قد تعالى الله     عنه فيا بشرى لمن والاه ) )

( ( ويستحيل ) ) في حق الله تعالى أضداد الصفات التي اتصف بها الباري جل شأنه ، والمستحيل هو كما مر ما لا يتصور في العقل ثبوته ، فما يستحيل في حق مولانا عز وجل ( ( الجهل ) ) الذي هو ضد العلم ، ( ( والعجز ) ) الذي هو ضد القدرة ، ( ( كما ) ) أنه قد ( ( استحال ) ) في حقه تعالى ( ( الموت ) ) الذي هو ضد الحياة ، حق ذلك ( ( حقا ) ) فهو مصدر ( ( و ) ) يستحيل في حقه تعالى ( ( العمى ) ) ، الذي هو ضد البصر ، وكذا الصمم الذي هو ضد السمع ، والبكم الذي هو ضد الكلام ، والفناء الذي هو ضد البقاء ، والعدم الذي هو ضد الوجود ، والفقر الذي هو ضد الغنى ، والمماثلة للحوادث المنفي في قوله تعالى ليس كمثله شيء ، وتقدم أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، فهي من المستحيلة في حقه تعالى ، وما نفاه سبحانه تعالى عن نفسه في محكم الذكر كقوله ( ( ليس كمثله شيء - هل تعلم له سميا - فلا تضربوا لله الأمثال - فلا تجعلوا لله أندادا - لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد - ولم يتخذ ولدا - ولم يكن له شريك في الملك ) ) ونحو ذلك .

والنفي إنما يدل على عدم المنفي ، والعدم المحض ليس بشيء أصلا ، فضلا عن أن يكون كمالا ، وإنما يكون كمالا إذا استلزم أمرا وجوديا ، فلهذا لم يصف الرب تعالى نفسه بشيء من النفي إلا إذا تضمن ثبوتا كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فقوله لا تأخذه سنة ولا نوم يتضمن كمال حياته وقيوميته ، فإن النوم أخو الموت ، ومن تأخذه السنة والنوم لا يكون قيوما دائما بنفسه ، مقيما لغيره ، فإن السنة والنوم يناقض ذلك ، ثم قال تعالى له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه فنفي شفاعة أحد عنده إلا بإذنه ، يتضمن كمال كونه له ما في السماوات وما في الأرض ، ليس له في ذلك شريك ولا ظهير ، فإن الشافع إذا شفع عند [ ص: 264 ] غيره بغير إذنه كان شريكا له فيما يشفع فيه ، وكان متصرفا فيه إذ جعله مماثلا ، بعد أن لم يكن فكان في نفس هذه الشفاعة قد بين أنه لا شريك له بوجه من الوجوه ، والصمد الذي يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء ولا يؤثر فيه غيره .

والحاصل أن كل ما كان ضدا لما ذكر من أوصافه أو نقيضا أو خلافا فهو تعالى منزه عنه مطلقا ولهذا قال ( ( فكل نقص ) ) من هذه الأوصاف المذكورة ونحوها ( ( قد تعالى ) ) وتنزه ( ( الله عنه ) ) لأن له الكمال المطلق فكل كمال لا يؤدي إلى نقص ما فالله أولى به ، وكل نقص فالله منزه عنه ( ( فيا بشرى ) ) نادى البشرى بشارة ( ( ل ) ) كل ( ( من ) ) أي شخص من أهل السنة والجماعة ، قد ( ( والاه ) ) الله ، أو قد والى هو الله ، أي اتخذ وليا معتمدا عليه ومفوضا جميع أموره إليه ، مع اقتفائه المأثور واتباعه للرسول ، فكأنه يقول لنفسه ولسائر أهل السنة هذا أوان حصول البشرى لكم ، أو يا بشرى أقبلي وتعالي فهذا أوانك ، وإنما نوه بالبشرى لمن والاه الله تعالى لعظم ذلك وخطره ودخوله في حصن ولايته ومحل نظره .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله - عليه وسلم " إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " الحديث ، وروى ابن أبي الدنيا من حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - عن النبي صلي الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال " من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي " ، ورواه الإمام أحمد بمعناه . وفي رواية يقول الله عز وجل " من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة "

وأخرج ابن ماجه من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن يسير الرئاء شرك ، وإن من عادى لي وليا فقد بارز الله بالمحاربة ، وإن الله يحب الأبرار والأتقياء والأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا ، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا ، مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة " ، وقد قال الله تعالى في محكم الذكر ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم فالناظم اقتبس من الآية البشارة لأهل الولاية .

وقد روى الإمام أحمد [ ص: 265 ] في كتاب الزهد بإسناده عن وهب بن منبه قال : إن الله عز وجل قال لموسى - عليه السلام - حين كلمه : اعلم أن من أهان لي وليا وأخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أو يظن الذي يعاجزني أن يعجزني ، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ، وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة فلا أكل نصرتهم إلى غيري ، واعلم أن كل من عصى الله فقد حاربه ، لكن كلما كان الذنب أقبح كان أشد محاربة لله تعالى .

ولهذا سمى الله تعالى أكلة الربا وقطاع الطرق محاربين لله ولرسوله لعظم ظلمهم لعباده وسعيهم بالفساد في بلاده ، وكذلك معاداة أوليائه ، فإنه سبحانه يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه ، فإذا كان من والى الله تعالى بهذه المثابة من الحفظ والإعزاز والنصرة له من قبل العزيز القهار ، وتوعد من عاداه وآذاه بمعاداة القوي الجبار ، فله البشارة العظمى والمسرة والمنزلة العليا والمبرة . وقد قدمنا غير مرة أن الحق عز وجل موصوف بكل كمال ، منزه عن كل نقص ، وهو العزيز المتعال .

التالي السابق


الخدمات العلمية