الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 93 ] ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم )

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الثالث

                                                                                                                                                                                                                                            من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة .

                                                                                                                                                                                                                                            ( ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن في كيفية النظم وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم : أحدهما : الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال ، والثاني : ترك الربا ، وهو أيضا سبب لتنقيص المال ، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم ، فقال : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار ؛ فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الربا ، وعلى ملازمة التقوى لا يتم [ ص: 94 ] ولا يكمل إلا عند حصول المال ، ثم إنه تعالى لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوى والتلف ، وقد ورد نظيره في سورة النساء ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ النساء : 5] فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد ، قال القفال رحمه الله تعالى : والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسط شديد ، ألا ترى أنه قال : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ، ثم قال ثانيا : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) ، ثم قال ثالثا : ( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) ، فكان هذا كالتكرار لقوله ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) ؛ لأن العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعا : ( فليكتب ) وهذا إعادة الأمر الأول ، ثم قال خامسا : ( وليملل الذي عليه الحق ) ، وفي قوله : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) كفاية عن قوله : ( وليملل الذي عليه الحق ) لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادسا : ( وليتق الله ربه ) وهذا تأكيد ، ثم قال سابعا : ( ولا يبخس منه شيئا ) فهذا كالمستفاد من قوله : ( وليتق الله ربه ) ، ثم قال ثامنا : ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) وهو أيضا تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعا : ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة ، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك والبوار ، ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره ، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم ، وهو حسن لطيف .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن قوما من المفسرين قالوا : المراد بالمداينة السلم ، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ، ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا فهذا ما يتعلق بوجه النظم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : التداين تفاعل من الدين ، ومعناه داين بعضكم بعضا ، وتداينتم تبايعتم بدين ، قال أهل اللغة : القرض غير الدين ؛ لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم ، أو دنانير ، أو حبا ، أو تمرا ، أو ما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ، ويقال من الدين ادان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ، ودان يدين إذا أقرض ، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر :

                                                                                                                                                                                                                                            ندين ويقضي الله عنا وقد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيقا

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : في المراد بهذه المداينة أقوال : قال ابن عباس : أنها نزلت في السلف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ثم إن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل ، فقال : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل , والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : وهو قول أكثر المفسرين : أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها : بيع العين بالعين ، [ ص: 95 ] وذلك ليس بمداينة البتة . والثاني : بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلا يكون داخلا تحت هذه الآية ، بقي هنا قسمان : بيع العين بالدين ، وهو ما إذا باع شيئا بثمن مؤجل , وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم ، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : المداينة مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين ، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن المراد من تداينتم تعاملتم ، والتقدير : إذا تعاملتم بما فيه دين .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : قوله : ( تداينتم ) يدل على الدين فما الفائدة بقوله ( بدين ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال ابن الأنباري : التداين يكون لمعنيين أحدهما : التداين بالمال ، والآخر التداين بمعنى المجازاة ، من قولهم : كما تدين تدان ، والدين الجزاء ، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال صاحب " الكشاف " : إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله : ( فاكتبوه ) إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى ذكره للتأكيد ، كقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ الحجر : 30] ، ( ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : فإذا تداينتم أي دين كان صغيرا أو كبيرا ، على أي وجه كان ، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل . الخامس : ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة ، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلو قال : إذا تداينتم لبقي النص مقصورا على بيع الدين بالدين وهو باطل ، أما لما قال : ( إذا تداينتم بدين ) كان المعنى : إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد ، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدين ، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : المراد من الآية : كلما تداينتم بدين فاكتبوه ، وكلمة " إذا " لا تفيد العموم ، فلم قال : ( تداينتم ) ولم يقل كلما تداينتم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أن كلمة " إذا " وإن كانت لا تقتضي العموم ، إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أن المراد هو العموم ؛ لأنه تعالى بين العلة في الأمر بالكتابة في آخر الآية ، وهو قوله : ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب ، فالظاهر أنه تنسى الكيفية ، فربما توهم الزيادة ، فطلب الزيادة وهو ظلم ، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر ، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دل النص على أن هذا هو العلة ، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل ، كان الحكم أيضا حاصلا في الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) ففيه سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما الأجل ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل ، وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر ، والآجل نقيض العاجل .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 96 ] السؤال الثاني : المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله ( مسمى ) والفائدة في قوله : ( مسمى ) ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما ، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو إلى قدوم الحاج ، لم يجز لعدم التسمية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية