الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر. [ ص: 3449 ]

                                                          فقال تعالى: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

                                                          البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر، ومضارة أهل الإيمان، وتفريق بينهم، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليه ريبهم في دينهم، وزادهم البناء ببواعثه ريبا، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأحرقه وحقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم، زادهم ذلك حقدا وحسدا، وريبا ونفاقا; لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، ولذا قال تعالى: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أي: لا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، وتقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها، والتي أربدت به، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب، وتزايده بتزايد المغريات له، والأعمال المنافقة تقوي النفاق وتدعمه، آنا بعد آن، والريبة هي الريب في كل شيء يفكرون فيه، وقد يقال: كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب، وهم يعتقدون الكفر، ويظهرون غيره، ونقول: إن المنافق لا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما، ولذا كان منافقا، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا.

                                                          وقرأ الحسن (إلى) بدل (إلا) أي: أن الريبة تستمر حتى يقبروا وتقطع قلوبهم، وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغائنهم طول حياة الرسول، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر، وكان الناس يتذاكرونه، فيصخون أسماعهم صخا [ ص: 3450 ] شديدا بذكره، جاء في الكشاف: روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع أن يأتيهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين; أليس إمام مسجد الضرار، فقال ( أي: مجمع): يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، والله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما اختمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرأون من القرآن شيئا، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة.

                                                          لعن الله النفاق وأهله وأعمالهم، ولقد كثر المنافقون في عصرنا حتى نالتنا لعنة الله بهم، اللهم ارحمنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك غفور رحيم.

                                                          وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: والله عليم حكيم أي: يعلم كل شيء ما خفي وما ظهر، ما أسرته القلوب، وما جهرت به الألسنة، وحكيم يضع الأمور في مواضعها، ويقدر فيكمل تقديره، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، وكونها جملة اسمية، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة.

                                                          بعد أن بين أوصاف المنافقين وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية