الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب في قضايا البغاة

قال أبو يوسف في البرمكي : " لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه " قال أبو بكر : وكذلك قال محمد ، وقال : " لو أن الخوارج ولوا قاضيا منهم فحكم ثم رفع إلى حاكم أهل العدل لم يمضه إلا أن يوافق رأيه فيستأنف القضاء فيه " قال : " ولو ولوا قاضيا من أهل العدل فقضى بقضية أنفذها من رفعت إليه كما يمضي قضاء أهل العدل " . وقال مالك فيما حكم به أهل البغي : " تكشف أحكامهم فما كان منها مستقيما أمضي " وقال الشافعي : " إذا غلب الخوارج على مدينة فأخذوا صدقات أهلها وأقاموا عليهم الحدود لم تعد عليهم ولا يرد من قضاء قاضيهم إلا ما يرد من قضاء قاضي غيرهم ، وإن كان غير مأمون برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه " .

قال أبو بكر : إذا قاتلوا وظهر بغيهم على أهل العدل فقد وجب قتلهم وقتالهم ، فغير جائز قبول شهادة من هذه سبيله ؛ لأن إظهار البغي وقتالهم لأهل العدل هو فسق من جهة الفعل وظهور الفسق من جهة الفعل يمنع قبول الشهادة كشارب الخمر والزاني والسارق فإن قيل : فأنت تقبل شهادتهم فهلا أمضيت أحكامهم ؟ قيل له : قد قال محمد بن الحسن إنهم إنما تقبل شهادتهم ما لم يقاتلوا ، ولم يخرجوا على أهل العدل فأما إذا قاتلوا فإني لا أقبل شهادتهم فقد سوى بين القضاء وبين الشهادة ولم يذكر في ذلك خلافا بين أصحابنا ، وهذا سديد ، والعلة فيه ما ذكرنا .

فإن قيل فقد قالوا إن الخوارج إذا ظهروا وأخذوا صدقات المواشي والثمار أنه لا يعاد على أربابها ، فجعلوا أخذهم بمنزلة أخذ أهل العدل قيل له : إن الزكاة لا تسقط عنهم بأخذ هؤلاء ؛ لأنهم قالوا : إن على أرباب [ ص: 285 ] الأموال إعادتها فيما بينهم وبين الله - تعالى - وإنما أسقطوا به حق الإمام في الأخذ ؛ لأن حق الإمام إنما يثبت في الأخذ ؛ لأجل حمايته أهل العدل ، فإذا لم يحمهم من البغاة لم يثبت حقه في الأخذ ، وكان ما أخذه البغاة بمنزلة أخذه في باب سقوط حقه في الأخذ .

ألا ترى أن أصحابنا قالوا لو مر رجل من أهل العدل على عاشر أهل البغي بمال فعشره أنه لا يحتسب له الإمام بذلك ، ويأخذ منه العشر إذا مر به على عاشر أهل العدل ؟ فعلمت أن المعنى في سقوط حق الإمام في الأخذ لا على معنى أنهم جعلوا حكمهم كأحكام أهل العدل .

وإنما أجازوا قضاء قاضي البغاة إذا كان القاضي من أهل العدل من قبل أن الذي يحتاج إليه في صحة نفاذ القضاء هو أن يكون القاضي عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ قضائه ، وحمل الناس عليه بيد قوية سواء كان المولي له عدلا أو باغيا .

ألا ترى أنه لو لم يكن ببلد سلطان فاتفق أهله على أن ولوا رجلا منهم القضاء كان جائزا وكانت أحكامه نافذة عليهم ؟ فكذلك الذي ولاه البغاة القضاء إذا كان هو في نفسه عدلا نفذت أحكامه " ويحتج من يجيز مجاوزة الحد بالتعزير بقوله - تعالى - : فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر بقتالهم إلى أن يرجعوا إلى الحق ، فدل على أن التعزير يجب إلى أن يعلم إقلاعه عنه وتوبته ؛ إذ كان التعزير للزجر والردع وليس له مقدار معلوم في العادة .

كما أن قتال البغاة لما كان للردع وجب فعله أن يرتدعوا وينزجروا قال أبو بكر : إنما اقتصر من لم يبلغ بالتعزير الحد على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من بلغ حدا في غير حد فهو من المتعدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية