الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3460 ] قال تعالى:

                                                          وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

                                                          نهى الله تعالى نبيه والمؤمنين عن أن يستغفروا للمشركين، وقد استغفر إبراهيم لأبيه في فترة من الزمان; لأنه كان يرجو أن يتوب ويغفر له، ولكن تبين له بعد ذلك أنه عدو لله، وإن هذه الإشارة الموجزة تؤكد نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عن أن يستغفروا للمشركين.

                                                          وقوله: إلا عن موعدة وعدها إياه وتلك الموعدة ما صرح به في سورة مريم محاجته مع أبيه، فقد قال تعالى في هذه المحاجة: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا

                                                          هذه الموعدة التي وعدها لأبيه، لأنه كان يرجو أن يتوب، وأن يغفر له الله تعالى، فالاستغفار كان بطلب المغفرة التي تجيء التوبة لازمة لها، والتوبة محتملة، وممكنة; لأنه كان حيا، فلما تبين له استمراره على غيه، وعداوته لله بصناعة الأوثان التي تعبد من دون الله تبرأ منه. وجاء في سورة الممتحنة، فقد قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [ ص: 3461 ]

                                                          وعد إبراهيم بالاستغفار لأبيه، ولما مات مشركا، وهو على غيه في صناعة الأصنام وعبادتها، تبرأ منه وصارت مثلا للمؤمن في تبرؤه من أبيه الذي كان إبراهيم له برا، ويراد له الهداية.

                                                          ثم بين الله تعالى الباعث النفسي الذي بعثه على الاستغفار لأبيه رجاء توبته، وبعدها المغفرة إن إبراهيم لأواه حليم الأواه كثير التأوه لرقة قلبه وشدة إحساسه، وفرط محبته لأولي قرباه، وحليم عاقل صبور مدرك لمن ينبغي أن يرحم، ومن يتبرأ منه، والله غفور رحيم.

                                                          * * *

                                                          قال تعالى:

                                                          وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم

                                                          * * *

                                                          (الواو) تدل على وصل هذه الآية بما قبلها، وما قبلها كان نهيا عن الاستغفار للمشركين، وجاءت قصة إبراهيم عليه السلام في استغفار إبراهيم لأبيه [ ص: 3462 ] تتمة للنهي عن الاستغفار، وقد كان من المؤمنين من دفعته الرأفة بآله، أو ذوي القربى أن استغفر لهم، فكانت الآية لبيان أنه

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية