الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1250 [ ص: 33 ] حديث ثان لعبد ربه بن سعيد مالك ، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه قال : سئل عبد الله بن عباس ، وأبو هريرة ، عن الحامل يتوفى عنها زوجها ، فقال ابن عباس : آخر الأجلين . وقال أبو هريرة : إذا ولدت ، فقد حلت ؛ فدخل أبو سلمة بن عبد الرحمن على أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك ، فقالت أم سلمة : ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فخطبها رجلان أحدهما شاب والآخر كهل ، فحطت إلى الشاب ؛ فقال : الشيخ لم تحل بعد - وكان أهلها غيبا ، ورجا إذا جاء أهلها أن يؤثروه بها ؛ فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد حللت فانكحي من شئت

التالي السابق


قال أبو عمر : هذا حديث صحيح جاء من طرق شتى كثيرة ثابتة كلها من رواية الحجازيين والعراقيين ، وأجمع العلماء على القول به إلا ما روي عن ابن عباس في هذا الحديث وغيره ؛ وروي مثله عن علي بن أبي طالب من وجه منقطع - أنه قال : في الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها آخر الأجلين - يعني إن كان الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشر ، اعتدت بوضعه ، وإن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر ، أكملت أربعة أشهر وعشرا ؛ فهذا مذهب ابن عباس وعلي بن أبي طالب ، على أنه قد روي [ ص: 34 ] عن ابن عباس رجوعه إلى حديث أم سلمة في قصة سبيعة . ومما يصحح هذا عنه : أن أصحابه عكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، وغيرهم - على القول بأن المتوفى عنها الحامل ، عدتها أن تضع حملها على حديث سبيعة ؛ وكذلك سائر العلماء من الصحابة والتابعين ، وسائر أهل العلم أجمعين , كلهم يقول : عدة الحامل المتوفى عنها أن تضع ما في بطنها من أجل حديث سبيعة هذا ؛ وأما مذهب علي ، وابن عباس في هذه المسألة ، فمعناه الأخذ باليقين ، لمعارضة عموم قوله - عز وجل - في المتوفى عنهن : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) - ولم يخص حاملا وعموم قوله عز وجل ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ولم يخص متوفى عنها من غيرها ، فمن لم يبلغه حديث سبيعة لزمه الأخذ باليقين في عدة المتوفى عنها الحامل ، ولا يقين في ذلك لمن جهل السنة في سبيعة إلا الاعتداد بآخر الأجلين ؛ ومثال هذا مسألة أم الولد تكون تحت زوج قد زوجها منه سيدها ثم يموت ، ويموت زوجها - ولا تدري أيهما مات قبل صاحبه ، فإنها تعتد من حين مات الآخر منهما - أربعة أشهر وعشرا فيها حيضة ؛ وعلى هذا جماعة العلماء القائلين بأن عدة أم الولد من سيدها حيضة ، ومن زوجها شهران وخمس ليال ، كلهم يقول : هاهنا بدخول إحدى العدتين في الأخرى ؛ ومعلوم أنهما لا يلزمانها معا ، وإنما يلزمها إحداهما ؛ فإذا جاءت بهما معا على الكمال في وقت واحد ، فذلك أكثر ما يلزمها ؛ لأنها إن كان سيدها قد مات قبل زوجها ، فلا استبراء عليها من سيدها ؛ وإن كان سيدها مات بعد مضي شهرين وخمس ليال ، فعليها أن تأتي [ ص: 35 ] بحيضة تستبرئ بها نفسها من سيدها ؛ ومعنى هذه المسألة الشك في أيهما مات أولا ، وفي المدة هل هي شهران وخمس ليال أو أكثر ؟ وقد قيل إن معنى هذه المسألة : أنها لا تدري هل بين موتيهما يوم واحد ، أو شهران وخمس ليال أو أكثر ؛ وفي هذه المسألة لأهل الرأي نظر ، ليس هذا موضع ذكره ؛ وإنما ذكرناها من جهة التمثيل ، وأنه من وجب عليه أحد شيئين يجهله بعينه ، لزمه الإتيان بهما جميعا ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كان ابن عباس يقول : إن طلقها - وهي حامل ثم توفي عنها - فآخر الأجلين ، أو مات عنها وهي حامل - فآخر الأجلين ؛ قيل له : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) قال : ذلك في الطلاق قال : وأخبرنا ابن جريج عن عطاء قال : إن طلقها حبلى ، فإذا وضعت فلتنكح حين تضع - وهي في دمها لم تطهر . قال : وأخبرنا ابن جريج عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، أنه أخذ في ذلك بحديث سبيعة . قال : وأخبرنا معمر والثوري عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : قال : ابن مسعود ومن شاء باهلته أو لاعنته ، إن الآية التي في سورة النساء القصرى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) - نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) - الآية ، قال : وبلغه أن عليا - رضي الله عنه - قال : هي آخر الأجلين ، فقال ذلك قال أبو عمر : روي عن عمر ، وابن عمر - مثل قول ابن مسعود ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وابن شهاب ، وعليه الناس .

[ ص: 36 ] ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : إذا وضعت حملها فقد حل أجلها ؛ قال : وقال : إن رجلا من الأنصار قال لابن عمر : سمعت أباك يقول : لو وضعت حملها - وهو على سريره لم يدفن - لحلت .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا المطلب بن شعيب ، قال حدثني عبد الله بن صالح ، قال حدثني الليث ، قال حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا سليمان بن داود المهري ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري ، يأمره أن يدخل على سبيعة ابنة الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته ، فكتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي - وكان ممن شهد بدرا - توفي عنها في حجة الوداع - وهي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته ؛ فلما تعلت من نفاسها ، تجملت للخطاب ؛ فدخل عليها أبو السنابل بن بعلك - رجل من بني عبد الدار - فقال : ما لي أراك متجملة ؟ لعلك ترجين النكاح ، إنك - والله - ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرا ؛ قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك ، جمعت علي ثيابي حين أمسيت ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج - إن بدا لي ؛ قال ابن شهاب : ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت - وإن كانت في دمها ، غير أنه لا يقربها حتى تطهر ؛ وليس في حديث الليث قول ابن شهاب ، ولفظ الحديثين سواء .

[ ص: 37 ] قال أبو عمر : لما كان عموم الآيتين معارضا - أعني قول الله - عز وجل : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) وقوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ، لم يكن بد من بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمراد الله منهما على ما أمره الله عز وجل بقوله : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراد الله من ذلك بما أفتى به سبيعة الأسلمية ، فكل ما خالف ذلك ، فلا معنى له من جهة الحجة وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية