الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة أي: لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره، والمراد بالفتنة الذنب، وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام، و (لا) نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى: إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون: إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهو كما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام: واتقوا فتنة لا تصيبكم، فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي الأمر لأن المعاملة معه لفظا [ ص: 193 ] وفيه: أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو: لا تدن من الأسد يأكلك، الإثبات أي: إن تدن يأكلك. وفي نحو: اتقوا فتنة النفي أي: إن لم تتقوا تصبكم. واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك، وإنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلى مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير: إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه ب أصابت لتلازمها؛ فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون؛ إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه؛ لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي - بلا - يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء وغيره: يحتمل أن تكون (لا) ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق، هل رأيت الذئب قط

                                                                                                                                                                                                                                      لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير: مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي: والله لا تصيبن خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة علي كرم الله تعالى وجهه، وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية: (لتصيبن) فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل: - لا - إلا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: [ ص: 194 ] إن (لا) في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      فأنت من العواتك حين ترمى     ومن ذم الرجال بمنتزاح

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية؛ لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ: لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و (من) على تقدير كون (لا) ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعريض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظلم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون (لا) نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: لا تصيبن صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالمون وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاملا للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: ولا تزر وازرة وزر أخرى لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه، وإذ لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل للوجوب ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي، وأبو داود، عن قيس بن حازم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب».

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية