الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون

قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين الآية خبر وفي معناه قولان : أحدهما : وهو الأشهر ، وعليه من الخلق الأكثر ، أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله ، والفرع يضاف إلى أصله ، فلذلك قال : خلقكم بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده ; هذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن أبي نجيح ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد وغيرهم ، الثاني : أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ، ذكره النحاس .

قلت : وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان ، وجعل فيه ما في العالم الكبير ، على ما بيناه في " البقرة " في آية التوحيد ، والله أعلم ، [ ص: 300 ] والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة ، عن ابن مسعود ، أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ، ثم يقول : يا رب ، مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة ، قال : يا رب ، ما الرزق ، ما الأثر ، ما الأجل ؟ فيقول : انظر في أم الكتاب ، فينظر في اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ، ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم . وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته .

قلت : وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين ، كما أخبر جل وعز في سورة " المؤمنون " فتنتظم الآيات والأحاديث ، ويرتفع الإشكال والتعارض ، والله أعلم ، وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في ( البقرة ) ذكره واشتقاقه ، ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ، ذكر ابن سعد في " الطبقات " عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس ولد آدم وآدم من التراب وعن سعيد بن جبير قال : خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء ، قال الحسن : وخلق جؤجؤه من ضرية ، قال الجوهري : ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب ، وعن ابن مسعود ، قال : إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر ، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار ، وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس أأسجد لمن خلقت طينا لأنه جاء بالطينة فسمي آدم ; لأنه خلق من أديم الأرض ، وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة ، وعن ابن عباس قال : لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء ، قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ، وعن أبي بن كعب ، قال : كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق ، وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه ، وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء ، فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ، ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا ، وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه ، فقال شيث لجبريل عليهما السلام : " صل على آدم " فقال له جبريل عليه السلام : تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة ، فأما خمس فهي الصلاة ، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم . وقيل : كبر عليه أربعا ، فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا [ ص: 301 ] يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث ، وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة . ويقال : هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد ؟ الجواب : نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما ، جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر ، لتسوية العقل بين ذلك في الحكم ، وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية .

قوله تعالى : ثم قضى أجلا مفعول . وأجل مسمى عنده ابتداء وخبر ، قال الضحاك : أجلا في الموت وأجل مسمى عنده أجل القيامة فالمعنى على هذا : حكم أجلا ، وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ، ولم يعلمكم بأجل القيامة . وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة ، وهذا لفظ الحسن : قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت وأجل مسمى عنده يعني الآخرة . وقيل : قضى أجلا ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجل مسمى من الآخرة ، وقيل : قضى أجلا مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما ، وأجل مسمى أجل الموت ، لا يعلم الإنسان متى يموت ، وقال ابن عباس ومجاهد : معنى الآية قضى أجلا بقضاء الدنيا ، وأجل مسمى عنده لابتداء الآخرة . وقيل : الأول قبض الأرواح في النوم ، والثاني قبض الروح عند الموت ، عن ابن عباس أيضا .

قوله تعالى : ثم أنتم تمترون ابتداء وخبر : أي : تشكون في أنه إله واحد ، وقيل : تمارون في ذلك أي : تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك ، ومنه قوله تعالى : أفتمارونه على ما يرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية