الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 19 ] الباب الثالث في وجوب العمل به

                                                      وهو حجة في الأمور الدنيوية بالاتفاق . قال الإمام الرازي : كما في الأدوية والأغذية والأسعار . وكذلك القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم بالاتفاق ، قال صاحب التلخيص : لأن مقدماته قطعية لوجوب علم وقوعه قال : وإنما النزاع منا ويجب العمل به إذا عدم النص والإجماع . وقال صاحب " القواطع " : ذهب كافة الأئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع ، قال الإمام أحمد : لا يستغني أحد عن القياس .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور والمثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب :

                                                      أحدها : ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة . [ ص: 20 ]

                                                      والثاني : ثبوته في العقليات دون الشرعيات ، وبه قال النظام وجماعة من أهل الظاهر .

                                                      والثالث : نفيه في العلوم العقلية ، وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع ، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية .

                                                      والرابع : نفيه في العقليات والشرعيات ، وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني قال : والمثبتون له في العقليات والشرعيات أوجبوه في الحوادث التي ليس فيها نص ولا إجماع وأجازوه فيما فيه أحد هذه الأصول إذا لم يرد إلى خلافها ، انتهى . ثم المثبتون له اختلفوا في مواضع :

                                                      أحدها : في طريق إثباته : فقال الأكثرون : هو دليل بالشرع ، ونص عليه في " الرسالة " فقال : وأما القياس فإنما أخذناه استدلالا بالكتاب والسنة والآثار . وقال القفال وأبو الحسين البصري : هو دليل بالعقل ، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له ولو قدرنا عدم وجودها لتوصلنا بمجرد العقل إلى انتصاب الأقيسة عللا في الأحكام . وقال الدقاق : يجب العمل به بالعقل والشرع ، حكاه في " اللمع " ، وجزم به ابن قدامة في " الروضة " وجعله مذهب أحمد لقوله : لا يستغني أحد عن القياس قال : وذهب أهل الظاهر والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا ، وإليه مال أحمد في قوله : يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس ، وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص مخالفا له لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار .

                                                      وثانيها : هل دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية ؟ وبالأول قال الأكثرون ، وبالثاني قال أبو الحسين والآمدي .

                                                      وثالثها : قيل : إنما يعمل به إذا كانت العلة منصوصة أو [ ص: 21 ] بطريق الأولى . والجمهور على وجوب العمل به مطلقا .

                                                      وأما المنكرون للقياس ، فأول من باح بإنكاره النظام ، وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومحمد بن عبد الله الإسكافي ، وتابعهم من أهل السنة على نفيه في الأحكام داود الظاهري . قال أبو القاسم عبد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي في كتاب في القياس ، مما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم " : ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد ، ولم يلتفت إليه الجمهور ، وخالف أبو الهذيل فيه ورده عليه " انتهى " . وقرر الناقلون بحث الظاهرية فقال ابن عبد البر في كتاب " العلم " : لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي [ ص: 22 ] القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود فإنه نفاه فيهما جميعا قال : ومنهم من أثبته في التوحيد ونفاه في الأحكام . وأطلق القاضي أبو الطيب عن داود والنهرواني والمغربي والقاشاني أن القياس محرم بالشرع .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور : فأما داود فإنه زعم أن لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو مدلول عليه بفحوى النص ودليله ، وذلك مغن عن القياس . فمنها ما ذكره الله مفصلا ، ومنها ما أجمل ذكره في القرآن وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتفصيل والبيان ، ومنها ما اتفقت عليه الأمة . وما ليس فيه نص ولا إجماع فحكمه الإباحة بعفو الله سبحانه عن ذكره ، وتركه النص على تحريمه ، أو بإخبار عن فاعل فعله من غير ذم له على فعله ، أو تورد الرواية عما فعل بحضرته عليه السلام فلم ينكره .

                                                      وقال ابن القطان : ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله تعالى باطل ولا يجوز القول به . وقال القاضي عبد الوهاب : ذهب داود الأصفهاني وغيره إلى أن التعبد بالقياس جائز ولكنه لم يرد ، وأن القول به والمصير إليه غير جائز لعدم الدليل القاطع أن الله تعالى تعبدنا به . وكذا نقل الشيخ في " اللمع " أنه يجوز العمل به عقلا إلا أن الشرع منع . وقال ابن حزم في " الإحكام " : ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله تعالى به والقول بالعلل باطل قال : وذهب بعض منكري القياس إلى أن الشارع إذا جعل شيئا ما علة لحكم [ ص: 23 ] فحيثما وجد ذلك وجب ذلك الحكم ، كنهيه عن الذبح بالسن . قال : وإنما السن عظم فهو يدل على أن كل عظم لا يذبح به . قال : وهذا لا يقول به داود ولا أحد من أصحابنا وإنما هو قول قوم لا يعتد بهم من جملتنا كالقاشاني وضربائه ، وقالوا : أما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال : إن هذا لسبب كذا . وقال داود وجميع أصحابه : لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا ، وإذا نص الشارع على أنه لكذا ، أو بسبب كذا ، أو لأنه ، فهو دال على أنه جعله سببا لتلك الأحكام في تلك المواضع التي جاء النص فيها ولا توجب تلك الأشياء شيئا من تلك الأحكام وغير تلك المواضع المبينة . ثم قال : ولسنا ننكر وجود بعض أسباب الأحكام الشرعية بل نثبتها ونقول بها لكن نقول : إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله أسبابا ولا يتعدى بها الموضع المنصوص على أنها أسباب له انتهى كلامه .

                                                      وقد عرف به مذهب الظاهرية على الحقيقة ، وأن داود وأصحابه لا يقولون بالقياس ، ولو كانت العلة منصوصة ، وإنما القائل به القاشاني وضرباؤه . ونقل القاضي والغزالي عن القاشاني والنهرواني القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة أومئ إليها في الأحكام المتعلقة بالأسباب ، [ ص: 24 ] كرجم ماعز لزناه ، والمعلق باسم مشتق كالسارق ، وكأنهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط . وقال القاضي : واختلف هل هما بهذا من القائلين بالقياس أم لا ؟ ونقل الآمدي عنهما القول به في العلة المنصوصة دون ما إذا كان الحكم في الفرع أولى به من الأصل . ونقل الأستاذ أبو منصور عن القاشاني أنه قال : كل حكم وقع في شخص لسبب من الأسباب استدل به على حكم كل ما وجد فيه مثل ذلك السبب إن لم يمنع منه دليل شرعي . ونقل عن النهرواني أنه قال : استدل على الفأرة تقع في السمن على السنور إذا وقع قال : وهذا منهما اعتراف بالقياس .

                                                      وقال أبو بكر الصيرفي في " أصوله " : المنكرون للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإلا فهم يعترفون به ، وهو المغربي وأبو سعيد النهرواني والقاشاني . أما القاشاني فإنه يزعم أنه يستدل بأن الكلام إذا شرع على سبب في شخص ، فالحكم للسبب فيما عدا ذلك الشخص وأنه يساويه ، فإن جرى علم صحته وإن لم يجر علم بطلانه ، ويدعي أنه يبطل القياس ، فهل قال أصحاب القياس شيئا غير هذا ؟ وأما النهرواني فإنه يزعم أنه يستدل بالفأرة تقع في السمن على السنور ، وزعم أن المراد النجاسة ثم سلكا في النفقات والأشياء الظاهرة الجلية أنها معقولة عن الخطاب ومعلومة بالعادة . فهؤلاء ما اهتدوا قط لنفي القياس . ولم ينف القياس قط في الأحكام غير إبراهيم ( يعني النظام ) من المتكلمين وأتباعه ، ومن الفقهاء داود ومن بعده ، وكل هؤلاء يزعم أنه لو قيل لنا : حرمت الخمر لأنها حلوة لم يحرم غيرها من كل حلو ، وسواء عليه قال : لأنه حلو أو لم يقل . انتهى .

                                                      وقال في موضع آخر : وقد نقل عن النظام إنكار القياس ، على أنه قد [ ص: 25 ] قال إن الشيء إذا تقدمت إباحته في الجملة واحتاج إلى العبرة اعتبر بعضه ببعض ، ونص على إيجاب النفقات للأزواج وأنه اعتبر بنظائرها ، وهذا هو الذي قاله القياسيون : إن القياس لا يوجب ابتداء الحكم ووضعها ، فإذا وضعت الأصول واحتيج إلى تمييزها والتنفيذ للحكم استدل ببعضها على بعض كما ذكر هذا الرجل في النفقات انتهى .

                                                      وقال ابن كج : النافي للقياس قائل به في كثير من المسائل ، فمنه رجم الزاني قياسا على ماعز ، وإراقة الزبد المتنجس قياسا على السمن ، وجواز الخرص والمساقاة قياسا على الكرم ، ومنع التضحية بالعمياء قياسا على العوراء ، وأن حكم الحاكم وهو يدافع الأخبثين مكروه قياسا على الغضب .

                                                      وقال ابن عبد البر في كتاب " جامع العلم " : وداود وإن أنكر القياس فقد قال بفحوى الخطاب وقد جعله قوم من أنواع القياس . وقال أبو الحسن السهيلي في " أدب الجدل " له : كل من منع كون القياس حجة فإنه يستدل به ثم يسميه باسم الاستدلال والاستنباط أو الاجتهاد أو دليل الشرع أو غيره .

                                                      واعلم أن النظام إنما أنكر القياس في شريعتنا خاصة ، ولم ينكر القياس العقلي ولا الشرعي السالف . ثم المنكرون للقياس اختلفوا في طريق نفيه : فقيل : ينفى بالعقل وحده ، ثم اختلفوا : فقيل : إن الخوض فيه قبيح [ ص: 26 ] لعينه ، وقيل : يجب أن يصطلح لعباده فينص على الأحكام كلها ، حكاهما إمام الحرمين .

                                                      وقيل : لأن الأحكام الشرعية طريقها المصالح ولا يعرف المصالح إلا صاحب الشرع فلا يجوز إثباتها إلا من جهة التوقيف . وقيل : لأنها جعلت على وجوه لا يمكن العلم بها قياسا ، كتحمل العاقلة الدية ، وإيجابه القسامة باللوث ، والحكم بالشفعة ، والفرق بين المخابرة والمساقاة ، وجمعت الشريعة بين أشياء مختلفة ، وفرقت بين أشياء متفقة ، فلذلك امتنع القياس ، ولا وجه إلا امتناع النص . وقيل : لأن المعارف ضرورية وهو لا يوجب العلم الضروري حكاهما الأستاذ أبو منصور . وقيل : لأن التعبد بالشرعيات حصل على وجه لا يصح معه القياس فلو وقع على خلافه صح .

                                                      ومنهم من قال : لا يجوز ذلك ، لأن الحكم لا يقتصر على أدنى طرق البيان مع القدرة على أعلاها ، ولا يعلق عبادته بالظن الذي يخطئ دون العلم ، لأنه يؤدي إلى التضاد في الأحكام ، وحكاهما ابن فورك ، وقيل لضعف البيان الحاصل به ، حكاه ابن السمعاني .

                                                      وقيل : بل ينفى بالشرع ، والعقل يقتضي جوازه ، لكن الشرع منع ، ونقله القاضي وغيره عن داود . وقال الأستاذ أبو منصور : إنه مذهب أكثر الظاهرية كداود والقاشاني والمغربي وأبي سعيد النهرواني ثم إن القاشاني والنهرواني ناقضا ، فقال القاشاني : " كل حكم وقع . . . " ونقل إلى آخر ما تقدم عنه وعن صاحبه المذكور ، ثم قال : وأما داود الأصفهاني والنظام فأسرفا ، فقال داود : لو قيل لنا حرم السكر لأنه حلو لم يدل على تحريم كل حلو ، [ ص: 27 ] وقال الغزالي . والفرق المبطلة ثلاثة : المحيلة له عقلا ، والموجبة له عقلا ، والحاظرة له شرعا .

                                                      قلت : والمانعون له سمعا افترقوا فرقتين :

                                                      فرقة قالت : نصوص الكتاب والسنة قد وفت وأثبتت فلا حاجة إلى القياس وهو رأي ابن حزم .

                                                      وفرقة قالت : بل حرم القول بالقياس . ولو صح ما قاله الظاهري من أن النصوص وافية بحكم الحوادث لما افتقر في كثير من الحوادث إلى استصحاب الحال وأدلة العقل .

                                                      وقال الدبوسي : نفاة القياس أربعة : منهم من لا يرى دليل العقل حجة والقياس منه ، ومنهم من لا يراه حجة إلا في موجبات العقول والقياس ليس منها ، ومنهم من لا يراه حجة لأحكام الشرع ، ومنهم من لا يراه حجة فيها إلا عند الضرورة ولا ضرورة لأنا نحكم فيما لا نص فيه باستصحاب البراءة الأصلية . والصحيح أنه حجة أصلية لا حجة ضرورية . وذهب ابن حزم إلى قول غريب لم يذهب إليه غيره فيما أظن وهو أن التعبد بالقياس كان جائزا قبل نزول قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وأما بعدهما فلا يجوز ألبتة لأن وعد الله حق ، فحاصله أنه منسوخ وهو بدع من القول . [ ص: 28 ] وهذه المذاهب كلها مهجورة وهو خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثبات القياس من الصحابة والتابعين قولا وعملا ، قال الغزالي : ومن ذهب إلى رد القياس فهو مقطوع بخطئه من جهة النظر ، محكوم بكونه مأثوما . قال القاضي : ولست أعد من ذهب إلى هذا المذهب من علماء الشرع ولا أبالي بخلافه . قال الغزالي : " وهو كما قال " . وقال ابن المنير في شرحه " : ذكر القاضي بكر بن العلاء من أصحابنا أن القاضي إسماعيل أمر بداود منكر القياس فصفع في مجلسه بالنعال وحمله إلى الموفق بالبصرة ليضرب عنقه ، لأنه رأى أنه جحد أمرا ضروريا من الشريعة في رعاية مصالح الخلق والجلاد في هؤلاء أنفع من الجدال . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية