الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ظهور إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها اجتاز إبراهيم بن المهدي وكان مختفيا مدة ست سنين وشهور منتقبا في زي امرأة ومعه امرأتان في بعض دروب بغداد في أثناء الليل ، فقام الحارس فقال : إلى أين هذه الساعة ؟ ومن أين ؟ ثم أراد أن يمسكهن ، فأعطاه إبراهيم خاتما كان في يده من ياقوت ، فلما نظر إليه الحارس استراب وقال : إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن . فذهب بهن إلى متولي الليل ، فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن ، فتمنع [ ص: 177 ] إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو ، فعرفه فذهب به إلى صاحب الحرس فسلمه إليه ، فرفعه الآخر إلى باب المأمون فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس ، وليعلموا كيف أخذ . فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة ، ثم أطلقه ورضي عنه . هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن ، فصلب منهم أربعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكروا أن إبراهيم بن المهدي لما أوقف بين يدي المأمون شرع في تأنيبه ، فترقق له عمه إبراهيم كثيرا ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن تعاقب فبحقك ، وإن تعف فبفضلك . فقال : بل أعفو يا إبراهيم ، إن القدرة تذهب الحفيظة ، والندم توبة ، وبينهما عفو الله عز وجل ، وهو أكبر مما تسأله . فكبر إبراهيم وسجد شكرا لله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها ، فلما سمعها المأمون قال : أقول كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [ يوسف : 92 ] وذكر الحافظ ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئا ، فقال : إني تركته . فأمره فأخذ العود في حجره ، وقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا مقام مسود خربت منازله ودوره [ ص: 178 ]     نمت عليه عداته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كذبا فعاقبه أميره

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم عاد فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذهبت من الدنيا وقد ذهبت منى     لوى الدهر بي عنها وولى بها عني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزة     وإن أحتقرها أحتقرها على ضن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإني وإن كنت المسيء بعينه     بربي تعالى جده حسن الظن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عدوت على نفسي فعاد بعفوه     علي فعاد العفو منا على من

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال المأمون : أحسنت يا أمير المؤمنين حقا . فرمى بالعود من حجره ، ووثب قائما فزعا من هذا الكلام ، فقال له المأمون : اقعد واسكن ، مرحبا بك ، لم يكن ذلك لشيء تتوهمه ، ووالله لا رأيت طول أيامي شيئا تكرهه ، وتغتم به ، ثم أمر له برد جميع ما كان من الأموال والضياع والدور ، فردت إليه ، وأمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه ، وخرج من عنده مكرما معظما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية