الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : قوله تعالى { زيادة في الكفر } : قد بينا الكفر وحقيقته ، وذكرنا أنه راجع إلى الإنكار ، فمن أنكر شيئا من الشريعة فهو كافر ; ولأنه مكذب لله ولرسوله ، والزيادة [ فيه ] والنقصان منه حق وصدق [ وكذلك الزيادة في الإيمان والنقصان منه حق وصدق ] ، وبينا حقيقة الإيمان والكفر واختلاف الناس فيهما والحق من ذلك في كتب الأصول على وجه مستوفى ; لبابه أن أهل السنة اختلفوا في الإيمان ; فمنهم من قال : هو المعرفة قاله شيخ السنة ، واختاره لسان الأمة في مواضع . ومنهم من قال : هو التصديق ; قاله لسان الأمة أيضا . ومنهم من قال : هو الاعتقاد والقول والعمل .

                                                                                                                                                                                                              فمن قال : إنه المعرفة منهم فقد خالف اللغة ، وتجوز ظاهرها إلى وجه من التأويل فيها .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 506 ] ومن قال : إنه التصديق فقد وافق مطلق اللغة ، لكنه قد يكون بمعنى التصديق ، وقد يكون بمعنى الأمان قال النابغة :

                                                                                                                                                                                                              والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها ، وركب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ، ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة ; أما في جهة اللغة فلأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ; قال النبي صلى الله عليه وسلم : { العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } .

                                                                                                                                                                                                              فإذا علم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فليتكلم بمقتضى علمه ، وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه ، فيطرد الفعل والقول والعلم ، فيقع إيمانا لغويا شرعيا ; أما لغة فلأن العرب تجعل الفعل تصديقا قال تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا } وصدق الوعد اتصال الفعل بالقول .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : هذا مجاز .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذه حقيقة ، وقد بيناه في كتب الأصول ، وعلى هذا المعنى جاء قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } .

                                                                                                                                                                                                              وعلى ضده جاء قوله صلى الله عليه وسلم : { من ترك الصلاة فقد كفر } .

                                                                                                                                                                                                              إذا ثبت هذا فاختلفوا أيضا في الزيادة فيهما والنقصان كما بيناه في موضعه وهي : المسألة السادسة : فأما من قال : إنه المعرفة أو التصديق بالقلب فأبعد الزيادة فيه والنقصان ; لأنها [ ص: 507 ] أعراض ; وزعموا أن الزيادة أو النقص لا يتصور في الأعراض ، وإنما يتأتى في الأجسام .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه الأعمال فتصور فيها الزيادة والنقصان .

                                                                                                                                                                                                              وقد سئل مالك : هل يزيد الإيمان وينقص ؟ فقال : يزيد ، ولم يقل ينقص .

                                                                                                                                                                                                              وأطلق غيره الزيادة والنقص عليه .

                                                                                                                                                                                                              وتحقيق القول في ذلك أن العلم يزيد وينقص ، وكذلك القول ، وكذلك العمل ، والكل بأج واحد وحقيقة واحدة ، لا يختلف في ذلك ولا يخرج واحد منها عنه ، وإن كانت كلها أعراضا كما بينا ; وذلك لأن الشيء لا يزيد بذاته ولا ينقص بها ، وإنما له وجود أول ، فلذلك الوجود أصل ، ثم إذا انضاف إليه وجود مثله وأمثاله كان ذلك زيادة فيه ، وإن عدمت تلك الزيادة فهو النقص ، وإن عدم الوجود الأول الذي يتركب عليه المثل لم يكن زيادة ولا نقصان ; وقدر ذلك في العلم أو في الحركة ، فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا ، وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات مقدرة فقد زاد علمه ، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص أي زالت الزيادة .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك لو خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها ، فإذا خلق الله للعبد العلم به من وجه وخلق له التصديق به بالقول النفسي ، أو الظاهر ، وخلق له الهدى للعمل به [ وليس العمل ] ، ثم خلق له مثل ذلك وأمثاله فقد زاد إيمانه .

                                                                                                                                                                                                              وبهذا المعنى على أحد الأقوال فضل الأنبياء [ على ] الخلق ، فإنهم علموه تعالى من وجوه أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها ، فمن عذيري ممن يقول : إن الأعمال تزيد وتنقص ولا تزيد المعرفة ولا تنقص ; لأنها عرض ، ولا يعلم أن الأعمال أعراض [ ص: 508 ] والحالة فيهما واحدة ; وقد صرح الله بالزيادة في الإيمان في مواضع من كتابه ، فقال : { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } .

                                                                                                                                                                                                              { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } .

                                                                                                                                                                                                              وقال : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } .

                                                                                                                                                                                                              وقال في جهة الكفار : { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } .

                                                                                                                                                                                                              فأطلق الزيادة في الوجهين :

                                                                                                                                                                                                              وقد قال علماؤنا : إن مالكا رضي الله عنه بعلمه وورعه امتنع من إطلاق النقص في الإيمان لوجوه بيناها في كتب الأصول ، منها : أن الإيمان يتناول إيمان الله وإيمان العبد ; فإذا أطلق إضافة النقص إلى مطلق الإيمان دخل في ذلك إيمان الله ، ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه لاستحالته فيه عقلا ، وامتناعه شرعا .

                                                                                                                                                                                                              وعلى هذا يجوز إضافة ذلك إلى إيمان العبد على التخصيص ، بأن يقول : إيمان الخلق يزيد وينقص .

                                                                                                                                                                                                              ومنها أن الإيمان من المعاني التي يجب مدحها ، ويحرم ذمها شرعا ، والنقص صفة ذم ; فلا يجوز أن يطلق على ما يستحق المدح فيه ، ويحرم الذم ، فإذا تحرر لكم هذا ويسر الله قبول أفئدتكم له فإنه مقلب الأفئدة والأبصار . .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية