الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل أو يقبلني وهو صائم ، وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ زاد الشيخان في رواية ويباشر وكان أملككم لإربه ولمسلم في رمضان وله من حديث أم سلمة التصريح بأنه ليس من خصائصه .

                                                            [ ص: 134 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 134 ] الحديث السابع عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل أو يقبلني وهو صائم وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم وابن ماجه من طريق علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر لفظ مسلم يقبلني ولفظ ابن ماجه يقبل وأخرجه مسلم أيضا والنسائي من رواية سفيان بن عيينة قال قلت لعبد الرحمن بن القاسم (أسمعت أباك يحدث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ؟ فسكت ساعة ثم قال نعم) وأخرجه البخاري من طريق الحكم بن عيينة وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من رواية الأعمش كلاهما عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه واتفق عليه الشيخان أيضا من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت وله عند مسلم طرق أخرى

                                                            (الثانية) قوله وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبط بكسر الهمزة وإسكان الراء وبفتحهما واختلف في الأشهر منهما فذكر النووي أن الأول هو أشهرهما ورواية الأكثرين ، قال وكذا نقله الخطابي والقاضي عن رواية الأكثرين وحكى صاحب النهاية الثاني عن رواية أكثر المحدثين ثم اختلف في معناه على الروايتين معا فقال الخطابي معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان علي أرب وإرب وإربة ومأربة أي حاجة والإرب أيضا العضو [ ص: 135 ] وتبعه النووي على ذلك فقال ومعناه بالكسر الوطر والحاجة وكذلك بالفتح ولكنه يطلق المفتوح أيضا على العضو (قلت) صوابه المكسور فلا نعلم المفتوح يطلق على العضو ، وذكر صاحب النهاية أنه بالفتح الحاجة وبالكسر فيه وجهان :

                                                            (أحدهما) أنه الحاجة أيضا (والثاني) أنه العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة ، وقال في المشارق في رواية الكسر فسروه بحاجته وقيل لعقله وقيل لعضوه ثم قال قال أبو عبيد والخطابي : كذا يقوله أكثر الرواة والأرب العضو ، وإنما هو لأربه بفتح الهمزة والراء ولأربته أي لحاجته قالوا الأرب أيضا الحاجة .

                                                            قال الخطابي والأول أظهر قال القاضي عياض ، وقد جاء في الموطإ رواية عبيد الله أيكم أملك لنفسه انتهى .

                                                            وبذلك فسره الترمذي في جامعه فقال ومعنى لأربه تعني لنفسه ، وقال والدي رحمه الله في شرحه : وهو أولى الأقوال بالصواب ؛ لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث ، وفي الموطإ من حديث عائشة بلاغا وأيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                            وذكر ابن سيده في المحكم أن الأرب الحاجة قال وفي الحديث كان أملككم لأربه أي أغلبكم لهواه وحاجته ، وقال السلمي الأرب الفرج ههنا وهو غير معروف ا هـ وتخصيصه في أصل الاستعمال بالفرج غير معروف كما قاله ولكنه لمطلق العضو وأريد باللفظ العام هنا عضو خاص وهو الفرج لقرينة دالة على ذلك ، وقد قال في المحكم بعد ذلك الأرب العضو الموفر الكامل الذي لم ينقص منه شيء والذي ذكره الجوهري وغيره أنه العضو ولم يقيدوه بأن يكون موفرا كاملا (الثالثة) استدل به على إباحة القبلة للصائم وأنه لا كراهة فيها وفي المسألة مذاهب :

                                                            (أحدها) هذا قال ابن المنذر روينا الرخصة فيها عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن عباس وعائشة وبه قال عطاء والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق ، وروى ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب قال لا بأس بالقبلة للصائم وعن أبي سعيد الخدري لا بأس بها ما لم يعد ذلك وعن سعيد بن جبير لا بأس بها وإنها لبريد سوء وعن مسروق ما أبالي قبلتها أو قبلت يدي واختاره ابن عبد البر ورجحه واستدل بما في الموطإ عن عطاء بن يسار أن رجلا قبل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل [ ص: 136 ] امرأته تسأل له عن ذلك فدخلت على أم سلمة فذكرت ذلك لها فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم فرجعت فأخبرت زوجها بذلك فزاده ذلك شرا ، وقال لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل الله لرسوله ما شاء ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مال هذه المرأة ؟ فأخبرته أم سلمة فقال ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك ، فقالت قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا ، وقال لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يحل لرسوله ما شاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده قال ابن عبد البر لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة هل زوجك شيخ أو شاب ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه عليه السلام ؛ لأنه المبين عن الله مراده انتهى . والقصة المذكورة رواها أحمد في مسنده عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أن الأنصاري أخبر عطاء أنه قبل امرأته وهو صائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فاتصل بذلك وخرج عن أن يكون مرسلا والله أعلم . ورجحه أيضا أبو بكر بن العربي فقال والذي يعول عليه جواز ذلك إلا أن يعلم من نفسه أنه لا يسلم من مفسد فلا يلم الشريعة ولكن ليلم نفسه الأمارة بالسوء المسترسلة على المخاوف .

                                                            (الثاني) كراهتها للصائم مطلقا وبه قال طائفة من السلف فروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر وابنه عبد الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا وأبي قلابة النهي عنها وعن علي وابن مسعود (ما تصنع بخلوف فيها) وعن ابن مسعود أيضا أنه سئل عن صائم قبل فقال أفطر وعن ابن عمر أفلا يقبل جمرة ؟ وعن شريح القاضي يتقي الله ولا يعود وعن سعيد بن المسيب تنقص صيامه ولا يفطر لها ، وعن الشعبي تجرح الصوم وعن محمد بن الحنفية إنما الصوم من الشهوة والقبلة من الشهوة وعن مسروق الليل قريب وعن ابن عمر أيضا وإبراهيم النخعي وغيرهما كراهتها للصائم قال ابن المنذر ، وروينا عن ابن مسعود أنه قال يقضي يوما مكانه (قلت) وهو موافق لما تقدم من المصنف عنه أنه قال أفطر وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيب أن من قبل في رمضان قضى يوما مكانه وحكاه الماوردي عن محمد بن الحنفية وعبد الله بن شبرمة قال ، وقال سائر الفقهاء القبلة لا تبطل الصوم إلا أن يكون معها إنزال ، وروى [ ص: 137 ] مالك في الموطإ عن عروة بن الزبير أنه قال لم أر القبلة تدعو إلى خير وبالكراهة يقول مالك مطلقا في حق الشيخ والشاب . قال ابن عبد البر وهو شأنه في الاحتياط .

                                                            (القول الثالث) التفرقة بين الشيخ والشاب فتكره للشاب دون الشيخ حكاه ابن المنذر عن فرقة منهم ابن عباس ، ورواه ابن أبي شيبة عن مكحول ، وروي عن ابن عمر مثل ذلك في المباشرة وحكاه الخطابي عن مالك والمعروف عنه ما قدمته من الكراهة مطلقا .

                                                            (القول الرابع) الفرق بين أن يأمن على نفسه بالقبلة الجماع والإنزال فتباح ، وبين أن لا يأمن فتكره ، وهذا مذهب الحنفية وهو مثل قول أصحابنا الشافعية أن القبلة مكروهة في الصوم لمن حركت شهوته دون غيره فلا تكره له لكن الأولى تركها لكن ظاهر كلام الحنفية الاقتصار في ذلك على كراهة التنزيه واختلف أصحابنا في هذه الكراهة فالذي ذهب إليه جماعات منهم وصححه الرافعي والنووي أنها كراهة تحريم ، وقال آخرون منهم هي كراهة تنزيه ، وقد جعل والدي رحمه الله في شرح الترمذي هذا القول هو القول بالتفرقة بين الشيخ والشاب وأن التغاير بينهما في العبارة والمعنى هو واحد هو الذي تفهمه عبارة النووي في شرح مسلم وله وجه ويكون التعبير بالشيخ والشاب جري على الأغلب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم ومن أحوال الشباب في قوة شهوتهم فلو انعكس الأمر كشيخ قوي الشهوة وشاب ضعيف الشهوة انعكس الحكم وجعلتهما مذهبين متغايرين وهو ظاهر كلام ابن المنذر ؛ لأن صاحب القول الثالث اعتبر المظنة ولم ينظر إلى نفس تحريك الشهوة وعدمها ، وصاحب القول الرابع نظر إلى وجود هذا المعنى بعينه ولم ينظر إلى مظنته ويدل لذلك أن النووي قال في شرح المهذب ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك فالاعتبار بتحريك الشهوة وخوف الإنزال فإن حركت شهوة شاب أو شيخ قوي كرهت وإن لم تحركها كشيخ أو شاب ضعيف لم تكره .

                                                            (القول الخامس) مذهب الحنابلة أنه إن كان المقبل ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل ، لم تحل له القبلة وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك كره له التقبيل ولا يحرم وإن [ ص: 138 ] كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففي الكراهة روايتان عن أحمد .

                                                            (القول السادس) التفرقة بين صيام الفرض والنفل فيكره في الفرض دون النفل وهو رواية ابن وهب عن مالك ويرده حديث عمرو بن ميمون عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل في شهر الصوم رواه مسلم وغيره وفي رواية له كان يقبل في رمضان وهو صائم فاحتج من أباح مطلقا بهذا الحديث ، وقال الأصل استواء المكلفين في الأحكام وأن أفعاله عليه الصلاة والسلام شرع يقتدى به فيها واحتج من كره مطلقا بأن غيره عليه الصلاة والسلام لا يساويه في حفظ نفسه عن المواقعة بعد ميله إليها فكان ذلك أمرا خاصا به ، ويدل لذلك قولها وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده ما في صحيح مسلم وغيره عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك فقال يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له وهذا صريح في أن ذلك ليس من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وعمر بن أبي سلمة هذا هو الحميري . كذا جاء مبينا في رواية البيهقي وليس هو ابن أم سلمة واحتج من فرق بين الشيخ والشاب أو بين من يأمن على نفسه المواقعة وبين من لا يأمنها بأنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من ذلك لشدة تقواه وورعه فكل من أمن ذلك كان في معناه فالتحق به في حكمه ومن ليس في معناه في ذلك فهو مغاير له في هذا الحكم وهذا أرجح الأقوال ، وقد ورد التصريح بالفرق بينهما رواه أحمد والطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمرو قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال يا رسول الله أقبل وأنا صائم ؟ قال لا ، فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم قال نعم . قال فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض ، إن الشيخ يملك نفسه في إسناده ابن لهيعة وهو مختلف الاحتجاج به ، وروى البيهقي نحو ذلك من حديث أبي هريرة وهو عند أبي داود ولكن بدل القبلة المباشرة قال ابن عبد البر ، وقد أجمع العلماء أن من كره القبلة لم يكرها لنفسها [ ص: 139 ] وإنما كرهها خشية ما تؤول إليه من الإنزال وأقل ذلك المذي ولم يختلفوا في أن من قبل وسلم من قليل ذلك وكثيره فلا شيء عليه ، ثم قال لا أعلم أحدا أرخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها مما يفسد صومه ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن علية ، وقال مالك عليه القضاء ولا كفارة ، والمتأخرون من أصحاب مالك البغداديون يقولون إن القضاء هنا استحباب انتهى وحكى ابن قدامة الفطر في صورة ما إذا قبل فأمذى عن مالك وأحمد .

                                                            (الرابعة) المتبادر إلى الفهم من القبلة تقبيل الفم ، وقال النووي في شرح المهذب سواء قبل الفم أو الخد أو غيرهما .

                                                            (الخامسة) قولها يقبل أو يقبلني الظاهر أنه شك من الراوي في اللفظ الذي قالته عائشة رضي الله عنها ، وقد تقدم أن في رواية غيره الجزم بأحد الأمرين ورواية مسلم الجزم بقولها يقبلني أصح من رواية ابن ماجه ولها شواهد وهي أخص ومعها زيادة علم وفيها جواز الإخبار بمثل هذا مما يجري بين الزوجين على الجملة للضرورة ، وأما في غير حال الضرورة فمنهي عنه وتصريحها بذكر نفسها تأكيد لما تخبر به وإنها ضابطة لذلك لكونها صاحبة الواقعة لم تخبر بذلك عن غيرها وهو أدعى لقبول ذلك والأخذ به والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية