الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل التقوى مثل رجل أصاب جوهرة نفيسة قيمتها بيوت من الدنانير أو ثوبا قيمته ألف دينار أو جارية لها ثمن غال شخصت إليها الأبصار منظرا ومخبرا أو صرة مسك ذكي الريح أو بازي طير أبيض تام الجثة مقدار الدرهم التام أهداه إليه ملك عال

فأنت تبقي على الجوهرة مخافة السراق ولا تعرضها إلا على [ ص: 222 ] من عنده من فنون الأموال مخافة أن يدلسها فيقبض منه الجوهرة ويبدلها بالزجاج شبهة ولا يعرف هو الجوهر من الزجاج فهي عندك مكنونة في اللفائف والحقة والدرج وتقيها من الغبار ومن كل آفة ونحوها

وكذا تتقي على الثوب اتقاء مثله من اللف والطي ووضعه في الصندوق وربطه فيما بين اللوحين

وتتقي على صرة المسك فلا تفتحها لئلا يذهب ريحها ولا يصل إليها غدار فتعوض من كبد الضأن وغيره وتتقي على الجارية فتحبسها وتصونها وتلبسها لباس مثلها وتطعمها طعام مثلها وتمنعها عن الخروج والبروز لئلا يطلع عليها أحد أو يحبها ظالم فيخرجها من يدك ويبقى قلبك معلقا بها مع الصراخ والعويل

وتتقي على البازي من كل آفة لئلا ينكسر جناحه فيعجز عن الطيران وإن قصرت في بعض تربيته ومداراته لا يألف وترك الإلف ويطير ويتركك خاليا فلا تراه أبدا

[ ص: 223 ] فانظر كيف تتقي على الأشياء وكيف حذرك وحراستك لهذه الأشياء وتلطفك بها وصيانتك لما تخوف عليهم من الآفات وضيعت حراسة أعظم الأشياء قدرا وأنفسها خطرا وهو مخ التقوى فقد عظمت حجة الله عليك لأن هذا القلب خزانة الله تعالى وضع فيها جوهرا نفيسا لا يحاط بمبلغ ثمنه وهي المعرفة

فإن نظرت إلى نفاستها وقدرها لم تقدر أن تحيط بثمنها علما ولا ائتمنت عليها أحدا

وإن نظرت إلى بهائها ونورها اتقيت عليها من كل دخان من الشهوات لئلا يلج الخزانة فيدنسها وإن نظرت إلى رقتها اتقيت عليها من كل صدمة من قبل النفس أن تصدمها

وإن نظرت إلى طيب ريحها اتقيت عليها من كل شيء من المعاصي

وإن نظرت إلى اصطبارها الطاعات فتشتئ قلوبهم بالدعاء إلى الله تعالى اتقيت عليها من كل تضييع تربيها وتعاهدها بما [ ص: 224 ] يتعاهد مثلها تربية مثلها لئلا تطير عنك فلا يبقى معك سوى معرفة الفطرة معرفة الكفار

فمن الله تعالى على الموحدين بمنة عظيمة أن أعطاهم نور الهداية حتى وجدوه ونطقوا بكلمة الشهادة وأمرهم بأن يتقوه على ما أعطاهم وهو النور الذي أشرق في قلوبهم ثم من قلوبهم إلى صدورهم فيجعلونه في وقاية الحراسة لئلا يصل إليه ما ليس له بأهل فإن المعرفة قد أيدت بالعقل والعلم والفهم والفطنة والحفظ والذكر والذهن

فهذه الأشياء حولها قطع الله بذلك ألسنة الآدميين عن نفسه لئلا يكون لأحد عليه حجة لإتيان معاصيه أو سوء ما يأتيه فبقوة هذه الأشياء يحرس معرفته ويذب عنها مكر النفس ودواهيها وكيد العدو حتى تصير المعرفة في وقاية منها وأمر بالتقوى لقوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

[ ص: 225 ] التقوى على سبع جوارح

ففهموا بهذه الأشياء أن التقوى على سبع جوارح العينان والأذنان واليد واللسان والرجل والبطن والفرج فلا يستعمل واحدا منهم إلا بما أطلق له وأذن له فيه

فأقبلوا إلى حفظها فوجدوا أنفسهم بين أمرين بين أمر هو طاعة وبين أمر هو معصية وفيه عيب لأنه عمل على غفلة فيما لم يؤذن له فيه فله فيه عقوبة ولو أتى بما أذن له ولكن على غفلة بلا حسبة ولا نية رمي بها على وجهه وخاب عن ثوابه وجزائه

وقد أمر بأن يتقى حق تقاته قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ففهم العباد عنه أن حق تقاته أن يطيع الله فلا يعصي ويتقي عن المعاصي وعن كل عمل على غفلة بلا حسبة ولا نية فصار التقوى على ضربين ضرب منها التقوى عن المعاصي وضرب منها التقوى عن عمل على غفلة بلا حسبة ولا نية فذا تقوى الظاهر وذي تقوى الباطن فالعباد أكثرهم أقبلوا على تقوى الظاهر حتى أحكموه وكفوا جوارحهم عن المناهي فلما صاروا إلى تقوى الباطن وهو ألا يعملوا شيئا مما أذن لهم فيه على غفلة حتى يكون لهم نية وحسبة اشتد عليهم ذلك وعجزوا عنه لأنهم في غطاء عن ذلك

[ ص: 226 ] وقد قال الله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم أي في الفرائض فبقيت العامة على هذا التقوى الظاهر وهو حفظ الجوارح السبع وعمله الذي أذن له فيه في غفلة ففي كل عمل عيوب موجودة وزينة الأعمال مفقودة ومع فقد الزينة العيوب موجودة ووجدت طائفة من العامة وجدا شديدا أن رأوا عامة أعمارهم من الأكل والشرب واللبس والكلام والسكوت والمشي والذهاب والنظر والاستماع بلا نية ولا حسبة فلا يجدون غدا في ميزان الحق منه شيئا فيثابون عليه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأعمال بالنيات

[ ص: 227 ] وقال أيضا (لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له فحزن المؤمنون على تعطيل العمر على هذا الوجه فرحمهم الله على ذلك فقال جل ذكره يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم

فقال أهل التفسير أي مخرجا ولكن هذه كلمة مبهمة ولم يفسروا ما المخرج من أين وإلى أين وإنما المخرج من ظلمة ودخان الشهوات بالأنوار التي يعطى

وقال جل ذكره في موضع آخر يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور [ ص: 228 ] وكان بالمؤمنين رحيما

ولما أقبلوا على التقوى الظاهر وهو حفظ الجوارح عن المناهي وأحكموا هذه التقوى ثم ذكروا ذكرا كثيرا عند كل نعمة وبؤس وسبحوه بكرة وأصيلا ليعمروا ما خرب منهم وليتداركوا بذلك التسبيح أدناس العيوب ويتطهروا وصلت عليهم الملائكة وصلاة الملائكة أن تستغفر لهم من العيوب وصلى عليهم الرب جل وعلا وجعل لهم مخرجا

فأما صلاة الرب جل جلاله فأن يسأل لهم بنفسه من نفسه نور الفرقان حتى أوجب لهم ذلك وهو نور الفرقان فعندها أخرجهم من ظلمات النفس إلى نور الله تعالى وإنما سمي نور الفرقان بهذا لأنه نور يفرق بين الحق والباطل وقد ذهبت الغفلة وإنما الغفلة حجاب أصله من شهوات النفس وهي [ ص: 229 ] كالدخان في الصدر فهي ظلمات تحجب عيني الفؤاد عن معاينة الحق حتى ينفي الباطل الذي يجيء من النفس إلى الصدر فيتراءى لعيني الفؤاد يريد أن يمده بذلك إلى نفسه فإذا هو باطل لا يثاب عليه غدا فإذا أخرجه الله تعالى من هذه الظلمات بصلاته عليه وإيجابه له هذا النور واستغفرت له الملائكة لتلك العيوب حتى إذا ولج هذا النور فوجد مكانا طاهرا مقدسا فأشرق النور واستقر في الصدر فعندها استوى له الأمران ونال كلا التقويين الظاهر والباطن فلا يعمل شيئا إلا على ذكر ونية وحسبة دق ذلك الشيء أو جل فأدرك ذلك النور القلب من الصدر في أسرع .من اللحظة لعظم ذلك النور حتى يرتقي من القلب إلى محله من العلياء حتى تصير الأشياء كلها له وبه وهم أصحاب القبضة فيه ينطق وبه يبصر وبه يسمع وبه يبطش وبه يعقل وهو قول الله جل ذكره ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

[ ص: 230 ] ثم وصفهم من هم وما عملوا فقال الذين آمنوا وكانوا يتقون

فهؤلاء طبقة آمنوا به حقا فاطمأنت قلوبهم بأحكامه عليهم من المحبوب والمكروه رضوا به ربا ورضوا بأحكامه عليهم حكما وذلوا لربوبيته خشعا وآثروه على أنفسهم حياء وبذلوا له نفوسهم جودا وسمحا وكان تقواهم على المشاهد كما ذكر في أول الآية من قوله عز وجل وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه فصارت شهادته عند كل عمل يفيضون فيه معاينة القلب فهابوا الله هيبة ماتت لها نفوسهم موتا وأحبوا الله حبا حييت قلوبهم به حياة وعبودة في كل لحظة فصارت أنفاسهم ولحظاتهم عبادة وكل حركة منهم طاعة ووجدوها غدا في [ ص: 231 ] ميزان الحق فهذا تقوى الباطن تقوى الأولياء

التالي السابق


الخدمات العلمية