الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المثال الخامس : وجه الرب جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة فليس بمجاز بل على حقيقته ، واختلف المعطلون في جهة التجوز في هذا ، فقالت طائفة : لفظ الوجه زائد ، والتقدير ويبقى ربك ، إلا ابتغاء ربه الأعلى ، ويريدون ربهم .

وقالت فرقة أخرى منهم : الوجه بمعنى الذات ، وهذا قول أولئك وإن اختلفوا في التعبير عنه ، وقالت فرقة : ثوابه وجزاؤه ، فجعله هؤلاء مخلوقا منفصلا ، قالوا : لأن الذي يراد هو الثواب ، وهذه أقوال نعوذ بوجه الله العظيم من أن يجعلنا من أهلها ، قال عثمان بن سعيد الدارمي ، وقد حكى قول بشر المريسي أنه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه " يحتمل أن يقبل الله عليه بنعمته وإحسانه وأفعاله وما أوجب للمصلي من الثواب ، فقوله ( ويبقى وجه ربك ) أي ما [ ص: 408 ] توجه به إلى ربك من الأعمال الصالحة ، وقوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) أي قبلة الله .

قال الدارمي : لما فرغ المريسي من إنكار اليدين ونفيهما عن الله أقبل على وجه الله ذي الجلال والإكرام لينفيه عنه كما نفى عنه اليدين فلم يدع غاية في إنكار وجه الله ، ذي الجلال والإكرام والجحود به حتى ادعى أن وجه الله الذي وصفه بأنه ذو الجلال والإكرام مخلوق ; لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقة يتوجه بها إليه ، وثواب وإنعام مخلوق يثبت به العامل ، وزعم أنه قبلة الله ، وقبلة الله لا شك مخلوقة .

ثم ساق الكلام في الرد عليه .

والقول بأن لفظ الوجه مجاز باطل من وجوه :

أحدها : أن المجاز لا يمتنع نفيه ، فعلى هذا ألا يمتنع أن يقال : ليس لله وجه ولا حقيقة لوجهه ، وهذا تكذيب صريح لما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الثاني : أنه خروج عن الأصل والظاهر بلا موجب .

الثالث : أن ذلك يستلزم كون حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وإرادته وسائر صفاته مجازا لا حقيقة ، كما تقدم تقريره .

الرابع : أن دعوى المعطل أن الوجه صلة كذب على الله وعلى رسوله وعلى اللغة فإن هذه الكلمة ليست مما عهد زيادتها .

الخامس : أنه لو ساغ ذلك لساغ لمعطل آخر أن يدعي الزيادة في قوله : أعوذ بعزة الله وقدرته ، ويكون التقدير أعوذ بالله ، ويدعي معطل آخر الزيادة في سمعه وبصره وغير ذلك .

السادس : أن هذا يتضمن إلغاء وجهه لفظا ومعنى ، وأن لفظه زائد ومعناه منتف .

السابع : ما ذكره الخطابي والبيهقي وغيرهما ، قالوا : لما أضاف الوجه إلى الذات وأضاف النعت إلى الوجه فقال ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) دل على أن ذكر الوجه ليس بصلة وأن قوله : ( ذو الجلال والإكرام ) صفة للوجه وأن الوجه صفة للذات .

[ ص: 409 ] قلت : فتأمل رفع قوله ( ذو الجلال والإكرام ) عند ذكره الوجه ، وجره في قوله ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) فذو الوجه المضاف بالجلال والإكرام لما كان القصد الإخبار عنه ، وذي المضاف إليه بالجلال والإكرام في آخر السورة لما كان المقصود عين المسمى دون الاسم فتأمله .

الثامن : أنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه ، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب أن قال : هو كقوله : وجه الحائط ، ووجه الثوب ، ووجه النهار ، ووجه الأمر ( فيقال ) لهذا المعطل المشبه : ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات بل هذا مبطل لقولك فإن وجه الحائط أحد جانبيه فهو مقابل لدبره ، وكمثل هذا وجه الكعبة ودبرها ، فهو وجه حقيقة ولكنه بحسب المضاف إليه ، فلما كان المضاف إليه بناء كان وجهه من جنسه وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه وهو من جنسه وكذلك وجه النهار أوله ولا يقال لجميع النهار ، وقال ابن عباس : وجه النهار أوله ومنه قولهم : صدر النهار ، قال ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار ، وأنشد للربيع بن زياد :

من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار

والوجه في اللغة مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه ، ووجه الرأي والأمر ما يظهر أنه صوابه وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه ، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمنا ، وإن أضيف إلى حيوان كان بحسبه ، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه ، وإن أضيف إلى من ( ليس كمثله شيء ) كان وجهه تعالى كذلك .

التاسع : أن حمله على الثواب المنفصل من أبطل الباطل ، فإن اللغة لا تحتمل ذلك ولا يعرف أن الجزاء يسمى وجها للمجازي .

العاشر : أن الثواب مخلوق ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بوجه الله فقال " أعوذ بوجهك الكريم أن تضلني ، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون " رواه أبو داود وغيره .

ومن دعائه يوم الطائف : " أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح [ ص: 410 ] عليه أمر الدنيا والآخرة " ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بمخلوق ، وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) قال : أعوذ بوجهك ( أو من تحت أرجلكم ) .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا أخذت مضجعك فقل : " أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، سبحانك وبحمدك " وإسناده كلهم ثقات .

في الموطأ : أنه كان ليلة الجن أقبل عفريت من الجن وفي يده شعلة من نار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فلا يزداد إلا قربا ، فقال له جبرائيل عليه السلام : ( ألا أعلمك كلمات تقولهن ينكب منها لفيه وتطفأ شعلته ؟ قل : " أعوذ بوجه الله الكريم ، وكلمات الله التامات ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، وما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل ، ومن شر كل طارق يطرق بخير يا رحمن " فقالها فانكب لفيه ، وطفئت شعلته ، أرسله مالك ووصله غيره .

الحادي عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دعائه : " أسألك لذة النظر إلى وجهك [ ص: 411 ] والشوق إلى لقائك " ولم يكن ليسأل لذة النظر إلى الثواب ولا يعرف تسمية ذلك وجها لغة ولا شرعا ولا عرفا .

الثاني عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه " وفي السنن من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينبغي لأحد أن يسأل بوجه الله إلا الجنة " ، فكان طاوس يكره أن يسأل الإنسان بوجه الله ، وجاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فرفع إليه حاجته ثم قال : أسألك بوجه الله ، فقال عمر : لقد سألت بوجه الله ، فلم يسأل شيئا إلا أعطاه إياه ، ثم قال عمر : ويحك ألا سألت بوجه الله الجنة ، ولو كان المراد بوجهه مخلوقا من مخلوقاته لما جاز أن يقسم عليه ويسأل به ولا كان ذلك أعظم من السؤال به سبحانه .

وهذه الآثار صريحة في أن السؤال بوجهه أبلغ وأعظم من السؤال به ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " فدل على بطلان قول من قال هو ذاته .

الثالث عشر : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " فإضافة السبحات التي هي الجلال والنور إلى الوجه وإضافة البصر إليه تبطل كل مجاز وتبين أن المراد وجهه .

الرابع عشر : ما قاله عبد الله بن مسعود : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السماوات والأرض من نور وجهه ، فهل يصح أن يحمل الوجه في هذا على [ ص: 412 ] مخلوق أو يكون صلة لا معنى له ، أو يكون بمعنى القبلة والجهة ، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : " وأعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " فأضاف النور إلى الوجه والوجه إلى الذات واستعاذ بنور الوجه الكريم ، فعلم أن نوره صفة له كما أن الوجه صفة ذاتية ، وهو الذي قاله ابن مسعود هو تفسير قوله : ( الله نور السماوات والأرض ) فلا تشغل بأقوال المتأخرين الذين غشت بصائرهم عن معرفة ذلك ، فخذ العلم عن أهله ، فهذا تفسير الصحابة رضي الله عنهم .

الخامس عشر : أن من تدبر سياق الآيات والأحاديث والآثار التي فيها ذكر وجه الله الأعلى ذي الجلال والإكرام قطع ببطلان قول من حملها على المجاز ، وأنه الثواب والجزاء ، لو كان اللفظ صالحا في ذلك لغة ، فكيف واللفظ لا يصلح لذلك لغة ، فمنها قوله : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وقوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) .

الوجه السادس عشر : أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وجميع أهل السنة والحديث والأئمة الأربعة ، وأهل الاستقامة من أتباعهم متفقون على أن المؤمنين يرون وجه ربهم في الجنة ، وهي الزيادة التي فسر بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) فروى مسلم في صحيحه بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : النظر إلى وجه الله تعالى ، فمن أنكر حقيقة الوجه لم يكن للنظر عنده حقيقة ولا سيما إذا أنكر الوجه والعلو ، فيعود النظر عنده إلى خيال مجرد ، كان أحسن العبارة قال : هو معنى يقوم بالقلب نسبته إليه كنسبة النظر إلى العين ، وليس في الحقيقة عنده نظر ولا وجه ولا لذة تحصل للناظر .

الوجه السابع عشر : أن الوجه حيث ورد فإنما ورد مضافا إلى الذات في جميع موارده ، والمضاف إلى الرب تعالى نوعان : أعيان قائمة بنفسها كبيت الله وناقة الله وروح الله وعبد الله ورسول الله فهذا إضافة تشريف وتخصيص ، وهي إضافة مملوك إلى مالكه ( الثاني ) صفات لا تقوم بنفسها كعلم الله وحياته وقدرته وعزته وسمعه وبصره ونوره وكلامه ، فهذا إذا وردت مضافة إليه فهي إضافة صفة إلى الموصوف بها .

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ [ ص: 413 ] إذا عرف ذلك بوجهه الكريم وسمعه وبصره إذا أضيف إليه وجب أن تكون إضافته إضافة وصف لا إضافة خلق ، وهذه الإضافة تنفي أن يكون الوجه مخلوقا وأن يكون حشوا في الكلام ، وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم " ، فتأمل كيف قرن في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين استعاذته بالوجه الكريم وهذا صريح في إبطال قول من قال : إنه الذات نفسها ، وقول من قال : إنه مخلوق .

الوجه الثامن عشر : أن تفسير وجه الله بقبلة الله وإن قاله بعض السلف كمجاهد وتبعه الشافعي ، فإنما قالوه في موضع واحد لا غير ، وهو قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) فهب أن هذا كذلك في هذا الموضع ، فهل يصح أن يقال ذلك في غيره في المواضع التي ذكر الله تعالى فيها الوجه ، فما يفيدكم هذا في قوله : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وقوله ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) وقوله ( إنما نطعمكم لوجه الله ) على أن الصحيح في قوله : ( فثم وجه الله ) أنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه ، فإنه قد اطرد مجيئه في القرآن والسنة مضافا إلى الرب تعالى على طريقة واحدة ومعنى واحد ، فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذكر في سورة البقرة وهو قوله : ( فثم وجه الله ) وهذا لا يتعين حمله على القبلة والجهة ، ولا يمتنع أن يراد به وجه الرب حقيقة ، فحمله على غير القبلة كنظائره كلها أولى ، يوضحه : الوجه التاسع عشر : أنه لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة ولا شرعا ولا عرفا بل القبلة لها اسم يخصها ، والوجه له اسم يخصه ، فلا يدخل أحدهما على الآخر ولا يستعار اسمه له ، نعم ، القبلة تسمى وجهة ، كما قال تعالى : ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا ) وقد تسمى جهة وأصلها وجهة لكن أعلت بحذف فائها كزنة وعدة ، وإنما سميت قبلة ووجهة لأن الرجل يقابلها ويواجهها [ ص: 414 ] بوجهه ، وأما تسميتها وجها فلا عهد به ، فكيف إذا أضيف إلى الله تعالى مع أنه لا يعرف تسمية القبلة ( وجهة الله ) في شيء من الكلام مع أنها تسمى وجهه ، فكيف يطلق عليها وجه الله ولا يعرف تسميتها وجها ؟ !

وأيضا فمن المعلوم أن قبلة الله التي نصبها لعباده هي قبلة واحدة ، وهي القبلة التي أمر الله عباده أن يتوجهوا إليها حيث كانوا ، لا كل جهة يولي الرجل وجهه إليها فإنه يولي وجهه إلى المشرق والمغرب والشمال وما بين ذلك ، وليست تلك الجهات قبلة الله فكيف يقال : أي وجهة وجهتموها واستقبلتموها فهي قبلة الله ؟

فإن قيل : هذا عند اشتباه القبلة على المصلي ، وعند صلاته النافلة في السفر ، قيل : اللفظ لا إشعار له بذلك البتة ، بل هو عام مطلق في الحضر والسفر وحال العلم والاشتباه والقدرة والعجز ، يوضحه : أن إخراج الاستقبال المفروض والاستقبال في الحضر وعند العلم والقدرة وهو أكثر أحوال المستقبل ، وحمل الآية على استقبال المسافر في التنفل على الراحلة على حال الغيم ونحوه بعيد جدا عن ظاهر الآية وإطلاقها وعمومها وما قصد بها ، فإن " أين " من أدوات العموم ، وقد أكد عمومها بـ " ما " إرادة لتحقيق العموم كقوله : ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) والآية صريحة في أنه أينما ولى العبد فثم وجه الله من حضر أو سفر في صلاة أو غير صلاة ، وذلك أن الآية لا تعرض فيها للقبلة ولا لحكم الاستقبال ، بل سياقها لمعنى آخر وهو بيان عظمة الرب تعالى وسعته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأعظم منه ، وأنه محيط بالعالم العلوي والسفلي ، فذكر في أول الآية إحاطة ملكه في قوله : ( ولله المشرق والمغرب ) فنبهنا بذلك على ملكه لما بينهما ، ثم ذكر عظمته سبحانه وأنه أكبر وأعظم من كل شيء ، فأين ما ولى العبد وجهه فثم وجه الله ، ثم ختم باسمين دالين على السعة والإحاطة فقال : ( إن الله واسع عليم ) فذكر اسم الواسع عقيب قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) كالتفسير والبيان والتقرير له فتأمله ، فهذا السياق لم يقصد به الاستقبال في الصلاة بخصوصه ، وإن دخل في عموم الخطاب ، حضرا أو سفرا بالنسبة إلى الفرض والنفل ، والقدرة والعجز .

وعلى هذا فالآية باقية على عمومها وأحكامها ليست منسوخة ولا مخصوصة ، بل [ ص: 415 ] لا يصح دخول النسخ فيها ، لأنها خبر عن ملكه للمشرق والمغرب وأنه أين ما ولى الرجل وجهه فثم وجه الله ، وعن سعته وعلمه ، فكيف يمكن دخول النسخ والتخصيص في ذلك .

وأيضا هذه الآية ذكرت مع ما بعدها لبيان عظمة الرب والرد على من جعل لله عدلا من خلقه أشركه معه في العبادة ، ولهذا ذكر بعدها الرد على من جعل له ولدا فقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات ) إلى قوله : ( كن فيكون ) فهذا السياق لا تعرض فيه للقبلة ، ولا سيق الكلام لأجلها ، وإنما سيق لذكر عظمة الرب وبيان سعة علمه وملكه وحلمه ، والواسع من أسمائه ، فكيف تجعلون له شريكا بسننه وتمنعون بيوته ومساجده أن يذكر فيها اسمه وتسعون في خرابها ، فهذا للمشركين ، ثم ذكر ما نسبه إليه النصارى من اتخاذ الولد ووسط بين كفر هؤلاء ، وقوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب ) فالمقام مقام تقرير لأصول التوحيد والإيمان والرد على المشركين ، لا بيان فرع معين جزئي .

يوضحه : أن الله تعالى لما ذكر قبلته التي شرعها عينها دون سائر الجهات بأنها شطر المسجد الحرام ، وأكد ذكرها مرة بعد مرة تعيينها لها دون غيرها من الجهات بأنها القبلة التي رضيها ، وشرعها وأحبها لعباده ، ولم يذكر أنها كل جهة بل أخبر أنها قبلة يرضاها رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل استقبالها من أعلام نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) أي ذلك الاستقبال ، وأكد أمر هذه القبلة تأكيدا أزال به استقبال غيرها وأن تكون قبلة شرعها .

التالي السابق


الخدمات العلمية