الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      ( أقسام القياس الجلي )

                                                      ثم قسما الجلي - تبعا للقفال الشاشي وغيره - إلى ثلاثة أقسام :

                                                      أحدها : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال قالا : ولا يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله ، كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } فإنه يدل على تحريم التأفيف بالبديهة ، وعلى تحريم الضرب والشتم قياسا ، ولا يجوز أن يحرم التأفيف ويبيح الضرب . وكقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } فلا يجوز أن يجازي على قليل الطاعة ولا يجازي على كبيرها ، ويعاقب على قليل المعصية ولا يعاقب على كبيرها . قال القفال الشاشي : حكم ذرة ونصف بمنزلة ذرة . وإنما قال هذا حتى لا يقول مبهوت : إن الكثير ذرات فالاسم متناول لها . يشير إلى ما حكاه إمام الحرمين [ ص: 50 ] في مناظرة جرت لابن سريج مع محمد بن داود إذ قال له ابن سريج : أنت تلزم الظاهر وقد قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين ؟ فقال مجيبا : الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج : لو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر انقطاعه . وقال بعض مشايخنا : لا يسمى هذا قياسا .

                                                      قلت : لأن العرب وضعت هذه اللفظة للتنبيه على ما زاد عليه فيكون النهي عن الضرب والشتم باللفظ ، وسماه بعضهم " مفهوم الخطاب " وقيل " فحوى الخطاب " .

                                                      قالوا : والقياس ما خفي حكم المنطوق عنه حتى عرف بالاستدلال من المنصوص عليه ، وما خرج عن الخفاء ولم يحتج إلى الاستدلال فليس بقياس . وقال نفاة القياس : ليس بقياس بل نص . وقيل : تنبيه وضعف ، لأن النص ما عرف " حكم مراتبه " والقياس ما عرف حكمه من اسم غيره ، وهو موجود لأن اسم التأفيف لا ينطلق على الضرب كما لا ينطلق اسم الضرب على التأفيف ، فتحريم الضرب مأخوذ من معنى التأفيف لا من اسمه ، فإن امتنعوا من تسميته قياسا فقد خالفوا في الاسم ، فاختلاف الأسماء في الوضوح والغموض لا يمنع أن يكون كلها نصوصا ، فكذلك اختلاف المعاني في الخفاء ، والجلاء لا يمنع كونه قياسا . واعلم أن هذا الوجه من القياس أقرب وجوهه إلى النصوص لدخول فرعها في النص .

                                                      الثاني : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال ، كالنهي عن التضحية بالعوراء والعمياء والعرجاء ، فالعمياء أولى قياسا على العوراء ، والقطعاء على العرجاء ، لأن نقصها أكثر ، فهذا لا يجوز أن يرد التعبد بخلاف أصله ، وإن جاز التعبد بإباحة العمياء والقطعاء مع تحريم العرجاء والعوراء . [ ص: 51 ] وهذا مما اختلف فيه نفاة القياس ، فاقتصر بعضهم على تحريم النص وأباح ما عداه ، فأباح التضحية بالعمياء والقطعاء ، وأثبت بعضهم تحريم الجمع بالتنبيه دون النص .

                                                      والثالث : ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر ، كقياس الأمة على العبد في السراية ، وقياس العبد عليها في تنصيف حد القذف ، وقياس النكاح على البيع في تحريمه عند صلاة الجمعة ، فهذا لا يجوز النسخ به . وفي جواز التخصيص به وجهان أصحهما الجواز ، وهذه الضروب الثلاثة يجوز أن ينعقد بها الإجماع وينقض بها حكم من خالفها من الحكام انتهى . وقال القفال الشاشي بعد ذكره نحو ما سبق : قد علق الشافعي القول في تسمية هذه الوجوه قياسا ، وحكى في " الرسالة الجديدة " أن من أهل العلم من يمنع أن يسمى هذا قياسا لأن القياس ما احتمل فيه شبه بين معنيين ، فنقيسه على أحدهما دون الآخر ، ويقول غيره من أهل العلم : ما عدا النص من الكتاب والسنة وكان معناه فهو قياس وليس في شيء مما حكاه فيها أن ما فهم من المعنى فهو نص ولا أنه مفهوم معنى الاسم انتهى .

                                                      فإن قيل : فما فائدة الخلاف في هذا القسم مع الاتفاق على الحكم ؟ قلنا : سبق في بحث المفهوم له فوائد : منها أنا لو قدرنا في فرع من الفروع وجود نص يشعر بنقيض الحكم فهل يتعارضان أو يرجح أحدهما على الآخر ؟ فمن قال : إنه مأخوذ من اللفظ قال : فيتعارضان .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية